ياسين عدنان
نام ولم يستيقظ. هكذا ببساطة. مثلما يحصل للمحاربين الكبار، للقابضين على الجمر. حتى الموت لا يستطيع مواجهتهم بندّية. لذا يسرق أرواحهم الكبيرة في إحدى لحظات الراحة القليلة التي يسرقونها لأنفسهم. لكن هل كان جوزف متخففاً تماماً من القضايا الكبيرة التي تشغل باله وروحه طوال اليوم، منذ أن يضع قدمه داخل مبنى الجريدة صباحاً حتى وقت متأخر من الليل؟ هل كان نائماً بالفعل كما ينام الناس العاديون؟ المؤكد أن الكابوس نفسه الذي اعترض سبيل سمير قصير وجبران التويني في أحد منعطفات الواقع اللبناني الشائك هو ذاته الذي انتزع منّا روح جوزف سماحة. كابوس الليل لا يختلف كثيراً عن كوابيس النهار. كابوس الليل هو ذاته واقع الاحتراب الثقيل ذو الوطأة الذي يجثم على الساحة اللبنانية منذ أشهر. وجوزف كان دائماً في قلب الخزان. وسط المعركة. كما يليق بفارس يعرف طريقه جيداً ويتفانى فيها. فالوصول السهل المتهافت لا يعنيه على الإطلاق.
هل كان جوزف سماحة صحافياً فقط؟ هل كان مجرد صحافي؟ أنا لم أره قطّ كذلك. كل صباح حينما أفتتح صباحي بقراءة “الأخبار” على الانترنت، أبدأ بمقالة جوزف: الاتفاقات والاحترابات. التكتيكات والحسابات الاستراتيجية. ملفات المنطقة وكواليسها. ثم تلك النظرة النقدية العميقة، وذلك الهدوء الذي يتناول به أكثر الملفات تعقيداً. هدوء الجراحين الكبار. هدوء الحكماء. وذلك القلم الرصين، وتلك اللغة السياسية النظيفة السهلة الممتنعة التي تسمي الأشياء بأسمائها بالضبط. هذا هو جوزف سماحة. لم يكن بالنسبة إلي مجرد صحافي، ولا مجرد رئيس تحرير أسعد بالعمل ضمن فريقه الشاب الحي. لكنّه كان بوصلتي الخاصة، وسط بحر سياسي متلاطم المصالح والحسابات في لبنان وفلسطين والشرق الأوسط. غداً سيكون يوماً صعباً، لأنني سأتلقى الحدث اللبناني والفلسطيني عارياً من تحليلات جوزف سماحة. غداً ستشحب الخطوط وستنفطر ألوانها حداداً على خط جوزف الأحمر. لكن بالله عليك أيها المعلم الكبير خبّرني: لماذا لم تطرق في تلك اللحظة جدران الخزان؟
في مقالاته الأخيرة، كان جوزف متشائماً إلى بعد الحدود. فالعدوان صار يتحرك بين ظهرانينا عارياً، بعدما سقط التكتيك أو كاد يسقط. والأفق السياسي صار “مقفلاً” في فلسطين، مثلما نقرأ في خطّه الأحمر الأخير. ألهذا غادرنا الرجل في صمت؟ لم يعد هناك مجال للمزيد. هكذا، ربما فكر جوزف قبل أن يصفق الباب وراءه ويغادر. لكن هل غادرنا فعلاً؟ هل غادر “الأخبار” حقاً؟ وحدهم صغار الأرواح والعقول يظنون ذلك.