سحر مندور
قال لي يوماً: كلما ناديتني «سماحة» رفّ قلبي.
ومنذ ذلك الحين، لم أعد أعرف كيف أنطقها. أخاف أن أقولها مرة من دون أن يرق قلبه لها، فأرتبك. قرّرت أن أنهي تردّدي، ورحت أناديه: «جو لو بو». هكذا، بالفرنسية، «جو الوسيم».
يقف فجأة في اجتماع التحرير في جريدة «السفير»، يوم كان رئيس تحريرها، ويخرج على عجل ليجيب على هاتفه الخلوي. كنا نظنّ، نحن المجتمعين هناك، أنه تلقى اتصالاً من وزير أو زعيم ما. في إحدى المرّات، اتصلت به وقت الاجتماع، وأجاب. فاكتشفت حينذاك، أنا ووسام سعادة، أنه يجيب على اتصال وسام وعلى اتصالي مثلما يجيب زعيماً، أو وزيرة. أو ربّما، كان يتحجّج بنا، وبأي وزير وزعيم، ليهرب من اجتماع إلى موعد غدائه الثابت، عند الواحدة والنصف ظهراً.
جعلني صحافية وجعل خالد صحافياً. منحه ملحقاً ومنحني، من دون سابق إنذار، وظيفة. مرّ بمكتب «الشباب» الذي كنت أزوره في «السفير» وطلب منّي دخول اجتماع. ضحكت للنكتة، لم يضحك هو. أظن أنها لم تكن نكتة. أدخل الاجتماع. يقول لي: أنت موظّفة هنا، أين تريدين أن تكتبي؟.
أغرمت به كما تغرم المراهقة بأبيها. عشت «أوديب» معه طويلاً وكنّا نضحك، أنا وإياه، من أوديب الذي حلّ متأخراً. أبي بعيد عني، هو كان قريباً، وبخجل من العواطف يريحني. يمنحني المال كي أسافر، يحتضنني كل صباح في «السفير»، ويأمرني بقراءة صفحات وصفحات انتقاها لي مما يقرأه يومياً قبل العاشرة صباحاً، ثم يطلب لي القهوة.
اغتيل سمير قصير، هرعت إلى مكتبه لأحتضنه. لقد فقد صديقه. قلت له: ماذا ستكتب؟ هزّ برأسه مثلما يفعل دائماً، تاركاً للحاضرين حرية فهم مغزى هزة الرأس هذه. أمرته: سترثيه، أنت صديقه. قال: لا أعرف كيف، لا أعرف. وكتب في اليوم التالي افتتاحيته التي شرح فيها فكر سمير، ولم يقل في الحب وفي الوداع أكثر من ثلاث كلمات: «سمير قصير، زاوية في القلب انطفأت».
سماحة، أمس، زاوية في قلبي انطفأت.
كنت أغني له: «كل البنات بتحبّك»، وزهير يضحك دائماً من قدرته على إشعار أبشع البنات بأنها ملكة جمال. أعرف أنّه أشعرني بأني أجمل صحافية في العالم. ظننت أني سأقلب باريس رأساً على عقب يوم قررت الهجرة إليها. هو قال لي ذلك. ولم أفعل. عندما عدت إليه، أخبرني أنّ باريس لم تعد عاصمة الصحافة العربية في الغرب. بمعنى آخر، أقنعني بأن باريس، شخصياً، لا تستأهلني. وأنا صدّقت.
على فكرة، هو لا يتكلم كثيراً في العواطف. لكنه يهز رأسه، ولكل هزة رأس معنى. قد يستنكر، وقد يغري. قد يؤكد وقد ينفي. قد يحيي وقد يميت. هزة رأسه هذه شهيرة. تماماً كـ«بربسة» الكلام التي لا يُفهم منها حق ولا باطل، لكنها لغته في التعبير عن ارتباك يفهمه كل من يعرفه، ونضحك.
نتنافس على إغرائه. وإحدى الطرق إلى قلبه تمر من الكلمة. يؤسّس جريدة ويفتتح صفحات وملاحق. يلقي أفكاره وعلى السامعين التقاطها والركض مباشرة إلى التنفيذ. لن يلاحق فكرته وكيفية تنفيذها. يلقيها، بكرم، فحسب.
زعلت منك كثيراً يوم تركت «السفير» ولم تخبرني. لم أكن وحدي، كثيرون زعلوا منك. واجتمعنا وبكينا، تماماً مثلما اجتمعنا أمس في جريدتك وبكينا. يوم الاستقالة، قال كلٌ منا: كيف لا يخبرني أنا؟ هذا كان شعور كل محرر وكل موظف سنترال وكل عامل استقبال فيها. شخصياً، لماذا لم يخبرني؟! كل منا يشعر بأنه مميز في علاقته به. لكن جوزف يرحل من دون أن يخبر أحداً. يهرع إلى الخارج ويقدم استقالته. تماماً مثلما فعل أمس، عندما ذهب إلى لندن ومن هناك، استقال للمرّة الأخيرة.
لم أكن أعرف أننا متعِبون إلى هذا الحد. أعرف أن البلد مقزز والحال مهترئة. لكن إلى هذا الحد؟!
يا رجل! أشعر باليتم. الفتاة التي أخبرها أبوها أنها تصلح للكتابة، فقدت عيناً تسعى لإبهارها، لقطف إعجابها، لمباغتتها بالجميل، وبالأجمل منه.
فإن أنت أبهرت جوزف سماحة، يمكنك أن تستريح في مجدك إلى الأبد. روحك لن يسعها كوكب. وإن لم تعد هذه الروح تتمتع بجوزف تبهره، فهناك خلل ما سيصيب المستوى العام بالتأكيد. هناك مرجعية حادة وعصرية لن تصفق لك أو تلومك. هناك تخلّف سيصيب كلمتك.
قالت ضحى إنّها عندما عرفت بالخبر لم تجد لك بيتاً تقصده، بل جريدة. جرائد. ومكاتب كثيرة يُترك بابها مقفلاً بعد رحيله عنها. مكاتب لا يشغلها أحد، ولا يجرؤ أحد على أن يشغلها، بعد رحيله عنها.
قلتُ له: أنت تحب «حزب الله» لكن أنا، أنا لا أريد أن أتحجّب!
ضحك وقال لي: أحارب كل من يفكر أو يحاول أن يحجّبك.
يناقشك في السياسة حد الثمالة، لكن، يضيع منه الكلام في أي شأن آخر... باستثناء الطرب طبعاً. ويتمايل من نشوة السكر على أنغام عود أو على صوت فتاة مغرمة به.
صور كثيرة تباغتنا وماض بات ماضياً لأنك رحلت عنه يهجم إلى الرأس دفعة واحدة ليمحو صورة الموت عن وجهك. بشرفك، هيا، امسح رأس كل منا بيدك مداعباً. هزّ برأسك. تمتم كلماتك غير المفهومة. قل: بسيطة، بسيطة. انصحنا بقراءة تحليل نُشر في صحيفة فرنسية، واكتب قراءة في الخبر تطوّعه لذهننا، فكفكه، حلله، أمعن فيه تشريحاً وربطاً. لا تترك الخبر لنا، نكتب عنه، نحاول فهمه، فنحن لا نزال في طور التعلم، نحتاج إلى عين مثل تلك التي تزيّن وجهك. بشرفك، لا تدع الأخبار عرضة لأقلامنا. وهذا الخبر تحديداً، لا تلقِه هكذا في وجهنا!
يا الله! تلك مصيبة لم نعد نمتلك جوزفاً يعبرها بنا.
تبقى لي كلمة واحدة أريد أن أقولها لك من قلب انطفأت زاوية الشغف فيه: أحبك، جو لو بو.