إبراهيم توتونجي
لأنّني لم أقل لك مرةً كم أحببتك. لأن الصبي لا يقول لأبيه. لأن التلميذ لا يقول لأستاذه. لأنك راهنت ولأنني خذلت. ولأنك قلتَ للولد: تَلَهَّ في غربتك بكتابة اليوميات، فاتخذ كلماتك ذريعة للكتابة والحياة والهروب المستمر واحتمال الكآبة. كآبة الوجود. ولأنك قلت له، من أسبوع فقط، إنك ستزوره في دبي. ولأنه قال لك: “أرِح نفسك قليلاً من العمل”. ومازحك: “الأمين سيجرّك جرّاً خارج المكتب... جوزف، الجميع خائف عليك من الإرهاق. الأخبار لن تنقطع... يلعن أخت البلد. أرح نفسك. خذ اجازة”.
ولأنّ العقل لا يغتالنا بل القلب. ولأنّ في قلبك أطفالاً وأوطاناً وافتتاحيات ومعارك وصحفاً. شبان وشابات يسألونك عن الحكمة في وقت التلهي والحماسة، عن الحبّ في نوبات الحقد، عن الحرف في لحظة القحط، عن الشرارة في ظلمة التحجّر.. ولأن الحبر الأسود يطهّر الأيادي ويلوث الشرايين. ولأن الحزن يتواطأ مع لندن، فتكون الخديعة. ولأنك لا تزال في مكتبك في “السفير”، في السابع، نتوافد اليك بلا مواعيد، ونقول كل شيء وتستمع، وتقول كل شيء ولا تجبرنا على الاستماع. تتخفّف تواضعاً، وبخبث العارف، تترك فينا كل شيء وترحل.
ولأنني سألتك، عبر الهاتف، يوم الجمعة الماضي، عن رئيس جورجيا: “كيف أقهره بسؤال؟”. ولأن صوتك كان تعباً، وكنتَ آتياً من نوم أو وهن. ولأنك لا تخيّب طلباً، ولا تردّ مستفسراً، فتقول كل شيء. ولأن رئيس جورجيا أُعجب بالسؤال، مثل الحاضرين. ولأنني ابتسمت بخبث وقلت: “كم اشتقت اليك يا معلم”.
ولأنني لم أقل لك إنّني قبل أسبوع فقط، خططت الحرف الأوّل في اليوميات. وكان اسمك في أول السطر. كانت نصيحتك، مثلما هي دائماً، الحرف الاول والعاطفة الاولى. كتبت: “جوزف سماحة: قال لي في ذلك اليوم، وأنا في بزة بنية لا تليق بي، لا تحزن في الخارج، وتلهّ بكتابة يومياتك”... لذلك كلّه، سأكتب اليوم، يا أبتِ أنني سأشتاق الى وجودك على هذا الكوكب. فوق الصفحة ذاتها، فوق السطر، سأضيف: رحلت الكتابة.