إلى اللقاء أيها الرفيق الحبيب
  • فايز فارس

    يأتيك الخبر الصدمة، يلفك بمادة غير معروفة، يضرب حواسك كلّها ويستقر في منطقة ما بين المخ والقلب فيجف الحلق. تطلب من أحدهم كوب ماء علّك تطفئ بعضاً من تلك الجمرات القابعة تحت الرماد، رماد العمر الذي مضى غصباً عنك. هي لحظات وإذ بشريط هذا العمر يمر أمامك تارة بالأبيض والأسود وتارة أخرى بالألوان: بينو والخنشارة وبيت مري وبيروت وباريس، والدة جوزيف الخالة الطيبة المجاهدة والأخ الوحيد وليد الذي ترك براءته ورحل ذات يوم، ديب عطيه (ديدي) فتى بينو الأغر، والأستاذ ميشال أبو جوده الذي أحب جوزف ورعاه بسبب إخلاصه النادر لمهنته، رسالة تترهّب لها فتستحق هالتها.
    حمل كل قضايا الشعوب المقهورة في قلبه وخزّنها في عقله في جميع أسفاره. كان إلى القلوب والعقول «سفيراً» ناجحاً، ومقداماً في التزامه قضايا «الوطن»، عمل في «اليوم السابع» وكأنه كل أيام الأسبوع مجتمعة وأعطى «الحياة» أكثر مما أعطته، حتى أدرك أن الناس تحتاج إلى «أخبار» حقيقيّة لا إلى إخبار يتبخّر في فضاء الحقيقة في لبنان وبلاد العرب.
    أمثال جوزف لا يعرفون دخول المستشفيات من الباب الرئيسي. هم يُحملون إليها ليدخلوها من باب الطوارئ. هم يرفضون حتى المرور أمام عيادة الأطباء، فكيف بزيارتهم. لأنهم يعلمون أن الطبيب سيشير حتماً إليهم بأن يبتعدوا عن شرب القهوة والسيجارة والسهر وينصحهم بالراحة وممارسة الرياضة في الهواء الطلق أو في النادي المجاور لمركز عملهم. كيف باستطاعة جوزف سماحة وأمثاله تذوّق طعم الراحة في بلد تأسس على كمية غير محددة من البراكين، وفي دولة رئيس وزرائها لا يرفّ له جفن وسياسيوها موتورون انتحاريون مسكونون بالهواجس الشخصية، وفي مجتمع ممزّق متعطّش إلى قليل من عدالة السماء وإلى بعض من مساواة إنسانية حتى يقوم وينهض؟
    الآن فهمت معنى تلك الكوابح التي منعتني أخيراً من زيارتك يا جوزف. وكنت أكتفي بمهاتفتك أرتشف معك قهوة الصباح مرتين، مرّة معك ومرّة مع صباح «الأخبار» بنت أيوب الرحباوية. لم يكن هروباً من رؤية شارع الحمرا ملعب الذكريات الدفينة غير المنسية. لأنني أشعر اليوم بأنني نجوت من حزن أكبر وأقسى، لو قمت بزيارتك في مركز عملك الجديد وشاهدتك تكابد وتكد وتغرق في تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع النجاح والتفوّق.
    ماذا كان قال وكتب ميشال أبو جوده في هذا اليوم عن جوزف سماحة؟ كان قال وكتب أن جوزف كان قارئاً جيداً ومستمعاً جيداً وخازناً أميناً للأسرار وملمّاً بأدق التفاصيل وكاتباً بارعاً وزميلاً ودوداً وصديقاً وفيّاً.


    الجهابذة لا يموتون
  • ريمون هنود

    صحيح أن الموت سينال من كل مخلوق، صحيح أنه لا يبلغنا متى سينقضّ علينا، لكن ليس في وسعنا الا أن نحزن ويعتصر قلبنا دماً، خاصة اذا نال من احد منا في ريعان شبابه وفي عز عطائه. لم يكن المناضل جوزف سماحة انساناً عادياً، بل كان عبقرياً من عباقرة المقاومين لظلام الاستعمار الهمجي. وكانت انامله تلتقط قلماً يخط كلمات ليست كالكلمات التي نسمعها عادة في وطن الزواريب والمزارع والمحاصصات، بل كلمات تخط لتخطط لبناء وطن عربي علماني تقدمي ديموقراطي، كلمات جعلته مارداً بين اقزام الطائفيين، وكان صوته الجهوري الجبار يصدح حكَماً من درر عندما كان يعتلي منابر الحق ويهتف ضد الجور والظلم والبؤس والحرمان ويُفرح قلوب الكادحين الحزانى. كان مدرسة تعلّم الانسان حب الوطن والامة، لا حقّ الطائفية والقبائلية والعشائرية والزبائنية. ما عساني أن اقول يا ضمير المناضلين! وبما انك تسلك درب السماء احمّلك سلامي الى كبار معلمينا، الى القائد المعلم كمال جنبلاط الى المناضل الشيوعي فرج الله الحلو الى حسين مروة الى مهدي عامل الى سناء محيدلي. سيفتقدك كل مناضل عربي حر شريف، ستفتقدك بيروت الوطنية الأبية والجنوب المقاوم الذي انتصر وقهر وحطم اسطورة الجيش الذي لا يقهر. سيفتقدك ابطال المقاومة الوطنية والإسلامية، ستفتقدك حبيبة قلبك وقلبنا فلسطين المحتلة. نم قرير العين والى جنان الخلد، ونعاهدك على اننا سنستمر حتى بزوغ فجر الوطن الذي كنت تناضل لقيامته. ستبقى حياً فينا لأنك من الجهابذة والجهابذة لا يموتون.