أيها السراج المنير

سعيد الصبّاح

دعني أذرف من مآقيَّ دموعاً من دم وريدي الراعف، وأغمس فيها يراعاً صنعته من حنايا ضلوعي، والقرطاس أوراق شجيرات الزيتون التي صمدت عبر القرون في بلادي.
حنانيك! فقد شفّني الوجد يا صديقي جوزف سماحة، أيها الصحافي الذي شق طريقه، وحمل صليبه، وسار في طريق الجلجلة، في مهنة الصحافة، فلم تأخذه في الحق لومة لائم، ألم يقل السيد المسيح: آمنتم بالحق والحق يخلصكم (أو يحرركم في قراءة أخرى)؟
يا ابن مدرسة آمنت بأن هذا الوطن لا يبنى إلا على قيم الوحدة الوطنية بين أبنائه وعلى العروبة العلمانية الديموقراطية الملتزمة قضايا أمتنا العربية في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق.
منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي أنت تناضل بفكرك وقلمك في قضايا أمتنا وحقها في الحياة الحرة الكريمة، وكانت البدايات في جريدة «السفير»، وأذكر أنني كتبت مقالاً نقدياً للوثيقة الدستورية في آذار 1976، فتلقفتها وقمت للتو بنشرها في هذه الجريدة الغراء.
بعدها يممت شطر لندن حيث عملت في الصحافة المهاجرة في عاصمة الضباب، بعدها أقفلت جريدة «الوطن»، ومن ثم عود إلى «السفير» حيث تبوّأت مركز رئاسة التحرير، وفي النصف الأول من العام المنصرم حطت بك الرحال في جريدة «الأخبار» رئيساً للتحرير.
في مجالسنا كان الموضوع الأول لنقاشاتنا مقالتك اليومية المتضمنة لتحليل موضوعي للواقع المعيوش، ففي كل مقالة دبجها قلمك الطاهر جمعت ما بين الالتزام الوطني وصدق التحليل، فكنت المنارة المشعة في ليلنا العربي البهيم.
الحمد لله، إذ اكتحلت عيناك برؤية مقاومتنا العملاقة تنتصر على جبروت العدو الصهيوني، فتهاوى جبروت المغتصب تحت أقدام المقاومين الذين سطروا ملحمة النصر في حرب تموز ــــــ آب في العام الماضي، وتهاوت كبرياؤهم تحت أقدام مجاهدي المقاومة وسيدها.
عفوك يا أعز الأصدقاء! إنها نفثات ملتاع في هذا الزمن الرديء الذي نسمع فيه من هم في درك الجريمة والعمالة يتحدثون عن الوطنية!! ويخوضون في غمار الكلام عن العفة، ورحم الله الأديب سعيد تقي الدين، فذرهم يعمهون في غيهم، ويسيرون في ضلالاتهم، فالحق ظاهر للعيان، وأنت وزملاؤك الميامين من ينافح عنه، معلياً راية الانتصار الوطني، أيها المقاوم بسلاح الكلمة.
لأسبوعين انقضيا قمت بزيارتك في مكتبك، وخرجت منشرح الصدر، وازددت يقيناً بأننا سننتصر على الأعداء، من صهاينة وإمبرياليين وتوابع لهذين الطاغوتين في وطننا العرب وسائر ديار الإسلام وفي كل أرجاء الدنيا الواسعة.
يا صديقي جوزف!
أي سراج منير للفكر الوطني الديموقراطي قد انطفأ، لكن الضوء عندما يخبو في عالم المادة، فإن نوره الشعشعاني يبقى في عالم المثل، فيشكل منارة لمسيرة نضال طويلة.

إلى سماحة الكلمة

د. خليل حسين

وجفَّ الحبر الأحمر في زمن عزَّت به الأقلام، فرحلت الكلمة في ذروة حاجتها؛ كيف وهي صانعة الحدث والخبر تسابقنا في تظهير الأفكار وتأطيرها؟، تكاد تجرّنا الى حيث تريد وسرعان ما نقتنع بما تنطق في اذننا وتأخذنا اسرى مكبلين، مستسلمين عن يقين بجرأة وقوة التحليل، تلك كلماتك التي نرتشفها صبحاً صبحاً اذا ما أخذنا الوقت لساعاته التالية.
اذكرك وريعان الشباب يدفعك قدماً نحو الكلمات الحمر في صحيفة الحركة الوطنية اواخر السبعينيات، فكانت بصمات الرأي تتلاحق في غير موقع واتجاه، وكأنك الوكيل الحصري للدفاع عما نبحث عنه، فكنت الوكيل في حضور الأصيل، والأصيل في موقعة الكلمة السمحاء.
مثقف لا يكاد الحرف يجرؤ على سباقه، ولا تكاد تقرأ إلا جديداً بين كلماته، يبحر في ثقافة الغرب وكلماتها وينهل منها أفكاراً يطبّعها في واقعنا، يأتيك بالجديد دائماً وتقف مذهولاً لسعة الاطلاع وبراعة التوصيف والتكييف، فتسلم وتستسلم لكتاباته وتشعر بأنك مجبر على قراءة مقالته حتى ولو في اليوم التالي.
أذكرك في آخر لقاء بعد طول غياب في مكتبك، منهمكاً في التصفح والتوجيه، منغمساً بأفكار خلاقة لهذا الخبر او التحليل، يحدثك وهو مشغول بما يسمع منك وعيناه تحدقان وعقله يدقق، يناقشك بهدوء ويسترق النقد ليبنى عليه مقتضاه. يجول في خاطرك كأنه يقرأ الأفكار، يقنعك بعدم الإكمال لئلا تقع في التكرار، تحاول أن تضيف جديداً فيبادرك به دون استئذان.
رحلت باكراً في عزِّ الحاجة والعطاء، فكنت مثالاً قلَّ نظيره، ومنهجاً فكرياً وثقافياً لا يُعوّض، وقلماً لا يُطوّع. سيمر وقت طويل قبل أن نقتنع بعدم البحث في يمين الصفحة الأولى.
نم قرير القلم، فالحروف تهرب منا ،لا تعرف كيف تصطفّ لرثائك، وحبرك الأحمر يتحول اليوم الى أبيض يبحث عن خلفية يظهر عليها، لكن ستظل احرفك وكلماتك تناسب كل الوان لبنان وأطيافه. اليك هذا الرثاء يا قوس قزح الحرف والكلمة، اليك يا سماحة الكلمة يا جوزف.

شتاؤنا بلا ربيع

الشيخ حسن المصري

أغرته بقبلة فما انجذبْ، منحته البسمة فما اقتربْ، أعطته العشق لذا اغتربْ. منيّة المرء ككأس الشراب، تغري الظامئ بنثر الحباب، فلا هي تروي وليس هو السراب!
هكذا أقرأ خبرك يا جوزف... سطراً بلا نقطة، وتشكيلةً بلا غلطة. جوزف: أيها العود الرّنان، والبسمة على فم الزمان، وقيثارة الحزن على شفة الشطآن.
شتاؤنا بلا ربيع، وجدولنا بلا خرير، وعودنا بلا وتر.
أنت موسم تعدّدت فاكهته، وأنت أحرف في فم الأبجدية، تتقن اللغة العربية، وتتنكر لضرّتها العبرية..
أنت نبض قلب، أبى السكوت طالما هناك داعٍ للكلام. أيها الكلام الذي يحسن السكوت عليه، كلما قرأناه آوينا إليه.. حتى ذبنا في كل فكرة لديه..
افتتحت موسماً للصدق هنا، ومن هنا إلى هناك إلى لندن، حملك الوفاء والحب، ومن الحب ما قتل.. من لبنان وإليه جاءنا وغادرنا، لكنه استودع فينا كلمة السر «الأخبار»!!
ستبقى «الأخبار» يا جوزف صوتك الداوي الذي لن يسكت أو ينطفئ. فهي النبض في قلب كل قارئ وطني مخلص..
جوزف: لقد أتقنت في الصحافة فنّ الحصافة، لا رصف كلمات كلها سخافة، وكلما تعمّقت فيها تقطعت أمراس آمالك التي لم تنقطع من قبل، لأنك كنت ترى الصحافة ومن حملها كبر الكلمة وعظمة الموقف.
أما اليوم، وبعد أن شاهدتها مسح جوخ باللسان، وبياناً ضد التبيان، ومقرفة لا تعرف المعرفة، أنكرتها ورحلت إلى حيث الحقيقة.. حقيقة الصدق بالكلمة، فعصرت روحك بالأسى، وعلمت حين العلم لا ينفع الفتى، أن في البدء كانت الكلمة، والكلمة هي الله! لا يمسّها رياء ولا كذب ولا دجل!
جوزف: عندما ينطق الموت تسكت الحياة بجميع لغاتها، لأن لسان الموت الذرب أفصح وأبلغ من كل كلام الدنيا..
بالأمس القريب، غادرنا طيف خيال جوزف الذي زارنا باكراً ومضى باكراً، ما أسرعه وما أبطأنا باللحاق به.. كان مسرعاً كالفكرة، ناطقاً كاللغة، مدلجاً كالريح، لا يأوي إلى حي ولا يلتجئ إلى دار، أيها السالك درب الكبار، كبرت حين تعلّقت بوطنك، وكبر وطنك بك عندما أصبحت صوته المرتفع في كل زوايا الكون.
يا شعلة من عمل، ويا صوتاً لا يملّ، ويا بسمة من أمل، ما أقسى غيابك، وما أسرع ذهابك، وما أحوجنا إليك، أيها الرابض مع المقاومين على خطوط النار، والحاني مع الفلاح في وضح النهار، والساكن مع الجرح على قارعة الانتظار..
خطك الأحمر اجتازته المنيّة، فهي لا تعرف الممنوع، ولا تقرّ بالخطوط الحمر... لن نرى الربيع وجداول الأنهار هذا العام، وشتاؤنا سيظل غيمه يبكي طالما الجو زيّفه الرياء والدجل، فأنت تسكن برقها ورعدها ومطرها ليمرع لبنان الأخضر ويجتاز خطك الأحمر كل خطوط العرب الصفراء!

نعم رحل مبكراً

منذر سليمان ـ واشنطن‏

غم تركه آثاره المحفورة مثل نقش صخري في ذاكرة التاريخ ، ألواحاً محفوظة تشع بالحياة والكمال، جمع في أدب المقال ما يخصه وحده: زخم المعلومة، عمق التحليل، صواب الرأي، جراة الموقف، اتجاه البوصلة... لا بل كان البوصلة غالباً.
تنساب كلماته تجيد مخاطبة المفكر والقارئ العادي، قدرة نادرة على تفكيك المعقّد بأسلوب ساحر البيان.
يدهشك جوزف في حضوره اللامع والمتواضع، في دقة متابعته للتطورات، سرعة خاطره، شمولية رؤيته للمشهد العالمي، العربي واللبناني. لكن الأكثر ادهاشاً لنا، من محبيه وأصدقائه في الولايات المتحدة، صياغته الدقيقة لتفاصيل المشهد الأميركي في مقالاته، وكنا نعجب لهذه الاحاطة التي يعجز عنها من عاش ولا يزال في المسرح الأميركي.
نعم رحلت مبكراً،
طعم المرارة عصيّ على التلاشي، في الفراغ والخواء الذي يتملكنا أمام فكرة ألّا تكون بيننا. بعد الصدمة نحاول أن نصدق أنك ترجلت عن صهوة جواد الكلمة الحرّة، الصادقة والملتزمة، في زمن تندر فيه الأقلام والمواقف الوطنية والقومية المؤمنة بالحق والمستقبل العربي. يفتقد الوطن العربي والصحافة العربية بغيابك، مرجعية فكرية وإعلامية ــــــ سياسية، قامت بدور مفصلي في توفير صلابة الموقف ومناعة الحجة للمعسكر الوطني العربي المقاوم في موقعه اللبناني المتقدم.
تغيب يا جوزف من دون انذار، وتترك محبيك ومريديك يعتصرهم ألم الفراق، لكنه أقل من حرقة خسارة لا تعوّض، لأنك كنت الاستثناء بكل امتياز.
لرحيلك تنهمر دموع الرجال بكل سخاء بدون استحياء

ضوء شمسي

رامي أبو حمدي ـ دبي

باغتتني «الأخبار» بصفحتها السوداء على الانترنت... كان عليها أن تكون أكثر رأفة بنا! كان عليها أن تخبرنا بهدوء أكبر وسواد أبطأ وأقل...
قرأت ما كتب زياد وأنسي الحاج عن جوزف سماحة، وذلك لم يخفف عني الرغبة في البكاء..
«موت كموتك قتل»، بل هو إهانة! إهانة للحياة والأشياء الشخصية المرهفة.. نحن نحتاج الى أشخاص أتقياء من حولنا، من دون أن تربطنا بهم معرفة شخصية بالضرورة.. يكفي أن نعرف أنهم هنا كي نشعر بأمل داخلي وبتوازن العالم.. هذا دور المبدعين والفنانين والكتّاب المرهفين: البرهان على الطبيعة النورانية للإنسان فيتوازن تشكيله بين مادتي الضوء والطين..
تعودت أن أفتتح صباحي يومياً بتصفح «الأخبار». وهذه أكثر من عادة يومية، إنها أسلوبي في صداقة الصباح.. ومحاولة إبداع رائحة خبز ساخن ومقهى وقهوة وشوارع ومدينة.. اليوم، القهوة سكبت سوداء على الورق الابيض، والغريب أن فيها شيئاً مباركاً.. المرهفون حتى حين يموتون، تفوح منهم رائحة قمح! كم هم رائعون!
كتب غوركي بما معناه أنه حين يفكر قبل النوم أن في العالم إنساناً مثل تولستوي، فإنه ينام مطمئناً.. ونحن يخفّ عنّا القلق العربي الفادح قليلاً حين نفكر بأن جوزف سماحة ولد وعاش وكتب..
أثق بأن جوزف صار ضوءاً شمسياً، وأن الصحيفة ستستمر..

عليّ أن أفكّر من جديد


فادي زراقط ـ أميركا

موتك يا جوزف أتعبني...
ذكاؤك، نقاؤك الثوري، حرَفيتك، مهنيتك... كل هذا كان يجعلني أطمئن وأكتفي بقراءتي اليومية لك لأطّلع وأفهم...
الآن برحيلك، بات عليّ أن أفكر من جديد.
ربما كان هذا أجمل ما في رحيلك. قلّما كان في الحزن جمال.

فريداً حتى الفرادة

إبراهيم هاشم

قلم واحد «أخضر» لم يكن «الآن هنا» «خطاً أحمر». أقلام كثيرة من جميع الألوان حضرت، وعزّت، وكتبت، ورثت. لكن الذي لا يشبهه أحد لم يعد هنا. كتب كلمته الأخيرة ورحل. تلك الكلمة التي سيقرؤها كلٌّ على هواه، ويرسمها في عيونه أو على صفحة خده أو صفحات صحيفته.
لم أعتقد يوماً أن الحزن يعرف العجز، لكن الرحيل اليومي لجوزف سماحة علّمني أن الحزن ينبع أصلاً من العجز. إذ إنه لا أحد يمكنه تغيير ما كتبه جوزف في فجر أسود. إنها طعنة عنيدة ورثت صلابتها من سيدها، واستقامتها من استقامته، وثباتها من ثباته، وقوتها من قبضته القابضة على الجمر في زمن السقوط.
هل حقاً انطفأ سفيرنا إلى عالم التحليلات، وتركنا بلا سفارة هناك.. ولا حتى ممثلية؟ وهل اطمأن قلبه قبل استقالته إلى مصير المعركة التي لمّا تنتهِ بعد؟ هل فرغت جعبته من الأصيل، أم تُراه يئس من التغيير؟ من سيكمل الطريق بعده بمعاييره شبه المستحيلة التي هنْدسَها بعناية وأشرف على إدماننا عليها؟
ليس أكثر من الأيام التي ستبدأ بلا صباح، سوى الأسئلة التي ستدور حول ماذا كان جوزف سيكتب غداً. كيف كان سيخترع طريقاً جديداً للتفرد؟ ماذا كان سيخبرنا وعما كان سيحدثنا؟
يصعب القول وداعاً عموماً، فكيف إذا كان المقصود بها فريداً حتى الفرادة؟

رثاء مقدسي

يونس العموري

مثلما يغادر الفرسان غادر جوزف سماحة بدون ضجيج أو صخب... ترجّل فارس الكلمة بدون مقدمات للرحيل... انسحب من المشهد العام لتعلن الكلمات عن نقص في البلاغة والتحليل لن يملأها إلا جوزف ذاته... بهدوء يصل الى درجة الاستفزاز غاب جوزف سماحة فارس الكلمة الحرة الأمينة المعبرة عن اصرار المقاوم في عروبته، والعاشق في عشقه، والحبيب في حبه، والأرض الثكلى، التي تأبى إلا أن تنطق بلغة الضاد، في حارثيها وزارعيها...
بنبالة النبلاء اعلن عن رحيله وسكت، وتوقف القلم عن الكتابة ليكون فراغاً للتحليل ولقراءة الموقف السياسي على كل المستويات والصعد...
مثلما هي عادتي كل صباح أن اتصفح تلك الصحف التي أعتقد اننا هنا بالأراضي الفلسطينية المحتلة المحرومة من كل اشكال التواصل مع هؤلاء المبدعين من اقراننا العرب والذين شاركونا في كل همومنا وفي كل محطات ترحالنا، كنا نتلقف كتابات جوزف سماحة مثل من تأتيه النجدة ليعي مجريات الفعل العام على الساحة العربية وليكتشف خبايا الدهاليز العربية... نعم كنا نبحث في كل القصاصات عن مزامير سماحة وأقاصيص الياس خوري وسمير قصير وطلال سلمان... مثلما هي العادة كل الصباح أن نمسك صحفنا الصادرة هنا في فلسطين، كنا نقرأ القراءة السياسية والاستراتيجية لجوزف سماحة، ويدور الحديث ما بين الرفاق حول آخر مقالة لسماحة وأهداف تحليلاته وإلى اين ذهب اليوم بالتحليل والتمحيص ووضع النقاط على الحروف... ونعيد نشر ما كتب هنا بالقدس ونتناول، وربما نختلف او نتفق مع ما يذهب اليه صاحب الكلمة التي كانت على الدوام باحثة عن الحقيقة والتي لم تألُ جهداً في توجيه الصرخة والنداء ما بين طياتها للخطر القادم نحو المنطقة... تلك الكلمات التي كنا نتلقى من خلالها التحذير لماهية الأخطار المداهمة للمكان على طول الأرض العربية...
كانت قراءة سماحة من عادتنا اليومية هنا في القدس، ولا يستقيم الصباح الا حينما نقرأ ما كتب في «الأخبار» وقبلها في «السفير» و«الحياة اللندنية»... تنقّلنا معه من مطبوعة الى اخرى، وكنا نقيس عروبية ومبدئية هذه المطبوعة من تلك بقدر مساحات كتابات سماحة فيها...
لقد انكسر القلم الذي علمنا معنى أن تمتلك قلماً حرّاً شريفاً لا يخشى في الحق لومة لائم... ومنذ هذا الصباح فقدنا المقالة التي كانت تعلمنا كيفية صناعة القرار وتساعد ذوي القرار على تفكيك الموقف الدولي وإعادته الى اولياته وعناصره الأولى... وبواعثه ومنطلقاته... كنا نشعر ونحن نقرأ سماحة بأننا امام تقدير فعلي للموقف، وأعتقد أن الساسة ومحترفي الفعل السياسي، على مختلف مواقعهم وتحالفاتهم، كانوا يأخذون بكتابات سماحة. منهم من كان يخشى من وقائعها عليهم وعلى عروشهم ومواقفهم... ومنهم من يستبصر بكتاباته ويفكك اولوياتها ويعيد صوغ مفاهيمه بفعل تقدير الموقف للحالة الظرفية الراهنة...
اذن، بهدوء رحل جوزف سماحة وتركنا نتخبط في البحث والتفتيش مرة اخرى عمن يملأ المكان ومساحات الحروف والكلمات ونسج المقالة والتحليل...
لقد انكسر احد الأقلام بين الأغنى ثقافة، والأصلب في مقارعة الغلط، والأكثر استنارة، والأقدر على استيلاد الأفكار البكر والمؤهلة لأن تجدد في نمط الإنتاج الصحافي، والعاطي لذاته فرصة التحرر من تكلسات الانغلاق والوهم في امتلاك حقيقة الموقف...
على مدار السنوات الطويلة كانت افتتاحيات الصحف تُكتب بقلم جوزف سماحة، اما اليوم فافتتاحيات تلك الصحف مفجوعة برحيلك وبترجلك عن صهوة الكلمة والفكر والإنتاج الصحافي يا سيدي...
كانت كل مقالة من مقالات سماحة تعبّر عن حقيقة واقع مرحلة عايشناها بكل تجلياتها، وكنا نحاول ان نلمس من خلال هذه المقالات بعضاً من الحقيقة وتسجيل الموقف الوطني القومي واستنباط حقائقه، على أساس الفهم الموضوعي لماهية ضرورات المرحلة، وارتباطاتها بالثوابت الوطنية غير القابلة للتفسير والتأويل بغير التفسير الفعلي لها... إن مقالات سماحة على مدار كل سنين الكتابة، حاولت كشف الكثير مما كان يجري على الساحة السياسية العربية والإقليمية والدولية، ولذلك لم تُكتب لكي تُرضي أحداً بعينه، شخصاً كان أو تياراً فكرياً أو سياسياً. على النقيض من ذلك تماماً... كتبت لتقول شيئاً من الحقيقة وترصد حقائق الواقع الفلسطيني والعربي والإقليمي الدولي في ظل وقائعه، وتداعياته، وتأثيراته على مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية...
عرفت جوزف سماحة قبل ان ألقاه بعاصمة الصحافة والفكر العربي (بيروت)، وتعرفت إليه من خلال خطوط كتابته ونقش حروفه على صفحات الصحف، وكثيراً ما اتفقت معه فيما كان يذهب اليه، وكثيراً ايضاً ما اختلفت معه، وكان من مشجعي الاختلاف في وجهة النظر في البستان الوطني والعروبي القومي المنفتح على الآخر... تعرفت إليه لأول مرة حينما زرته بمكتبه بجريدة السفير قبل سنوات، لا أذكر الآن في أي عام كان هذا التعارف، فوجدته صحافياً محترفاً، يسمع اكثر مما يتكلم ويحاول ان يستنبط افكاره من خلال الأحاديث التي تجري معه وخصوصا حينما يكون القادم من القدس ومن الأرض السمراء التي لطالما مثّلت احدى اهم محطات كتابته...
كان يسأل عن وقائع الحياة هنا في القدس وكيفية المعايشة اليومية مع الاحتلال، وعن هذا الانسان القابض على الجمر والموقف الوطني... كان على الدوام يسأل عن طبيعة لوحة الانسان الفلسطيني وتكويناته واهتماماته ومن أين يستمد صلابته... وماهية اجندته... وعن احوال الصحافة الفلسطينية وهؤلاء المبدعين في الوطن المحتل... كان يقول: إنكم انتم معشر الكتّاب في فلسطين إبداعكم اكثر من إبداعنا نحن هنا... كان يعي معنى ان تكتب في فلسطين وسط رائحة البارود واللون الأحمر القاني هو المسيطر على مشهد الألوان في فلسطين... جوزف سماحة ظل وفياً لفلسطين حتى ترجّل، وظل وفياً لأصدقاء عايشوا تجربته وكتاباته وإن كان لا يعرفهم...
فمن القدس ننعاك وحتماً سنفتقد كتاباتك وآراءك الحرة الشجاعة...

السايت» لم يـُحدََّث بعد

هلال شومان ـ إنكلترا

لحزن هو الحياة. الحزن هو ما يبقى من اللحظة. الفرح يبقى وليد لحظته. لا يستطيع أن يتخطى الآنية الموسوم بها. يستعاد فيما بعد، نعم. لكنه يبقى آنياً. لحظياً. هل تذكر تلك اللحظة التي وقفتَ بها عند باب المقبرة تتردد في أن تدخل أو ترحل؟ قلتَ لحظتها إن زيارة القبور جهل وتخلف، ثم رحلت. الحقيقة أنّ السبب الرئيس كان خوفك من تعاظم حزن نفسك. يقلقك. يوصل إلى ما قد لا تحمد عقباه. لكنه يحك ما تحته من خبايا. يفضح المخبّأ. كل هذا يدخل في حوار النفس للنفس. لا دخيل. لن يساعد الخارج رغم قربه في تسريع هذا الحوار الحميم أو إبطائه.
***
أمام باب المقبرة وقفت. رفضت كمشة الآس المقدمة إليك من إحدى العجائز رغم إلحاحها. عزمتَ على ألّا تدخل. كنتَ تعرف عندها أنّك ما زلت تحفظ الطريق في الداخل. قد تضيع لبعض الوقت بسبب قبر أعيد تجديده أو لآخر استحدث. لكن الخريطة الذهنية لا تموت. تدخل مستقيماً. تستدير إلى اليسار وتتابع السير. تعود إلى استقامتك ما إن تلحظ ذلك القبر الرخامي الغريب ثم تلتفت يميناً وتمشي بضع خطوات حتى تصل.
***
السايت لم يحدَّث بعد. تأخروا الليلة. أجمل ما في معيشتك خارجاً فارق التوقيت. هنا تتبع توقيت غرينتش بفارق ساعتين عن المآساة الكلامية هناك. السايت لم يحدَّث. ماذا سيكتب اليوم؟ ما المصطلح الجديد الذي سوف يعمم على الصحافة قريباً؟
***
لم تدخل ذلك اليوم. لكنك دخلت اليوم التالي. تذكرَتـْك بائعة الآس ولم تحاول أن تبيعك شيئاً. أحسن. العزلة رفيقة الحزن (أم العكس؟). تتبع خريطتك الذهنية وتصل إلى ذلك القبر. لا تبككي. تصمت. فقط، تصمت. تجتاحك فوضى الأفكار. يمر ما قد سبق أمامك. الحزن المشهدي يعود. يـُستحضَر بإصرار من لا وعيك. لا تبكي. إحداهنَّ تقوم بالمهمة عنك. قريباً، تركع هي قرب ذلك القبر. تحضر عدّة التنظيف وتنهمك في تنظيف رخام القبر وهي تبكي. لا تبكي. إحداهنَّ تحاول تنظيف ذكراها فلا تفلح.
***
لا تستطيع أن تقرأ أي شيء اليوم. سلّمت سلاحي. خضعْت للعدالة الدولية المستجدّة. خرجت تمشي. لا هدف. لا مكان محدداً. دع قدميك توصلاكَ. يقترب منك أحد الشحاذين ويطلب قطعاً نقدية معدنية. خرج ما بجيبك من قطع. تضعها في كفك. تنتقي بعض القطع وتقدمها إليه. «لا يكفي»، يقول وهو ينظر إلى القطع في باطن كفك. لا يكفي لماذا؟ لما بقي من الحياة؟
***
حُدِّث السايت. تصلني الرسالة الالكترونية الآنية. «رهيب اليوم»، يقال لك. «هل قرأتَ ما كتب». يقصد ما قال. لا يكتب، بل يقول. في الانكليزية عبارة غريبة ترجمتها الحرفية: «لا تلعب بعقلي». أنت تسلّم عقلك له كل صباح ليلعب به كما يشاء.
***
تقرأه قبل أن تنام. أحياناً لا تستطيع لملمة ذهنك الناعس، فتقرأه مجدداً في الصباح. لم يكتب منذ أيام. ما الخبر؟ يحدَّث السايت ولا يظهر اسمه. يبقى عند عنوانه الأخير. ربما غداً، تقول. تذهب إلى نومك. لا تعلم أنه على بعد ثلاث ساعات منك هنا سيذهب هو إلى نومه أيضاً فلا يصحو بعدها أبداً.
***
تمرّ قرب دكان للأزهار هنا. الرائحة عابقة. رائعة لبداية صباح لن تدريَ أنه سينقلب حزيناً بعد قليل. تعود إلى بيتك فيحدِّث أحد أصدقائك خريطتك الذهنية بالخبر الحزين. يضاف إلى خريطتك راحل جديد. تتعرف إلى صورته للمرة الأولى. أنت لطالما فوّتّ إطلالاته التلفزيونية القليلة. لا تملك إلا أن تصمت، تعظِّم من حزني الوحيد، ولا تبكي. أحدهم يبكي عنكَ هناك، قرب فنجان قهوته الأخير. تحاول أن تكتب شيئاً على الشاشة ثم تمحوه. ثم تكتب، ثم تمحوه. رائحة الورد الحزين ما زالَتْ عالقة. حقّاً. كيف تكتب عن رائحة أعجبتَ بها؟ فعلياً كيف؟ زكية؟ جميلة؟ حلوة؟ تشبهها بشيء معروف رائحته؟
لا تعرف أن تصفَ حزنك ولا حتى الرائحة فكيف تصف أنتَ رائحة الموت يا جوزف؟

كيف سنبدأ صباحنا... من دون قراءتك يا جوزف؟

معن بشور

بين قلّة من الصحافيين والكتّاب اللبنانيين والعرب استطاع جوزف سماحة أن يجمع بين المهنية الراقية والالتزام العميق، فلا جنح باسم المهنية الى التحلل من الالتزام ولا تلطّى وراء الالتزام كي يعفي نفسه من شروط المهنية القاسية.
قال أحدهم «كان جوزف صحافياً يقرأ»، فأجاب الآخر: «لذلك كان يقرأ الناس»، فهو كان يذهب الى مصادر الخبر يرصدها، يتابعها، يحللها، يفكك عناصرها، فيقدم لقارئه خدمة تحليلية مميزة جنباً الى جنب مع الخدمة الإخبارية الممتازة.
لم يكن جوزف سماحة مجرد صحافي لامع، أو كاتب متألق ينتظره القارئ كل صباح، كما ينتظر فنجان القهوة أو كلمة «صباح الخير» من حبيب أو قريب، بل كان جوزف أيضاً مدرسة في الكتابة الصحافية تجمع بين المعلوماتية الموثقة، والتحليل العميق، والالتزام الصافي من شبهة العصبوية والفئوية، وخصوصاً من شائبة الذاتية التي أجهضت قدرات ومواهب وطاقات كثيرة.
بين المثقفين كانت ثقافته عميقة تطارد السطحية والارتجال والانفعال والانتفاع، لأنه كان يدرك أنه مع الثقافة لا توجد أنصاف حلول أو أنصاف مثقفين، فالثقافة قيمة سامية يتطلب الارتقاء إليها انقطاعاً يشبه انقطاع الصوفيين، وانغماساً في عذابات الناس يشبه انغماس المناضلين.
لم يخسر جوزف قرّاؤه الكثر على امتداد لغة الضاد فقط، ولم تخسره «الأخبار» وهي تشقّ الخطوات الأولى في طريقها الصعب والطويل فحسب، بل خسره لبنان الواحد كله، وخسرته العروبة والديموقراطية، كما خسرته حركة النهوض الحضاري في الأمة...
خسره لبنان الواحد لأنه من القلّة التي أفلتت من بين متاريس الطوائف والمذاهب، وخنادق الحروب الأهلية، المعلنة والكامنة، فتحولت كتاباته الى جسر بين عقول اللبنانيين يستعينون بها على الغرائز المنفلتة.
وخسرته العروبة والديموقراطية معاً. فجوزف لم يكن يقبل أبداً الفصل بينهما، أي بين هوية مستهدفة من كل أعداء الأمة، وديموقراطية تثبت كل يوم أنها حصن الهوية المنيع في كل الظروف وبوجه كل التحديات.
أما حركة النهوض الحضاري العربي فقد خسرت في جوزف أحد الحالمين الكبار بنهضة العرب، مجدداً تراث نهضويين لبنانيين انطلقوا من قلب الجبل اللبناني ليعم نورهم سهول الوطن العربي الكبير وبواديه وأوديته ومرتفعاته.
وداعاً يا جوزف، فلقد اقتلعت برحيلك الباكر جزءاً جميلاً من صباحنا.. إذ كيف سنبدأ صباحنا إذا لم نقرأ جوزف سماحة؟

بوصلة الطريق

عصام نعمان

لا ادري إن كان جوزف سماحة «اختار» الغياب بطريقة السكتة القلبية. أشك في ذلك. عوّدنا دائماً أن يمتشق قلمه ويخوض المعركة بلا هوادة حتى حدود الشهادة. فهل يُعقل أن يكون قد «اختار» هذه الميتة الهانئة؟
إنها ضربة قدر غاشم ليس إلا. فجوزف لا يتسامح مع نفسه الى درجة يسكت معها قلبه وقلمه في آن واحد.
قال ديكارت: «أنا أفكّر، إذاً أنا موجود». جوزف سماحة قال أو كما قال: أنا افكر، إذاً أنا أقاوم. لذا قاوم جوزف طوال حياته الظلــــم والاستــــبــــداد والاســــتعـــمار والصـــــهيونيـــة والطـــائفـــية.
لم يتسامح مع هذه الأمراض قط بل انتصر دائماً للحرية والديموقراطية والعدالة والحداثة والإبداع. فعل ذلك كله بفكره وقلبه وقلمه.
كان جوزف يعتبر الثقافة مرادفة للنقد، أن تكون مثقفاً يعني أن تكون ناقداً، لذا غرف من المعرفة كثيراً وأعمَلَ قلمه في النقد كثيراً. غير أنّ أسلوبه في النقد كان متميزاً. فيه كثير من العقل والواقعية والمنطق ونعومة التعبير المقرونة بعمق التحليل والجرأة في اتخاذ الموقف.
لا أعرف بين الصحافيين العرب من هو أوسع منه ثقافةً وأكرمَ عطاءً وأجرأ نقداً. باجتماع هذه المزايا الثلاث في شخصه الطيب المعطاء، أصبح جوزف سماحة لجيل كامل من الكهول والشباب الملتزمين قضية شعبهم، مرشدَ فكرٍ ونضال وبوصلة طريق قلّما تخطئ.
هكذا كان يطلّ من إشراقة افتتاحيته اليومية: يرشد من دون تكلّف ولا أبوّة مصطنعة ولا غرض ولا مرض، ويدل الى الطريق بثقة ومحبة ومتابعة حميمة.
إنه فخر جيلنا، غيابه المبكر ضربة مدمّرة للثقافة العربية الديموقراطية الناقدة والقائدة في الآن نفسه.

مات كبيراً وعظيماً

رفيق أبي يونس

مرّة واحدة توقّف ينبوعه عن التدفق. نستأذن سواه لنعلن إحساسنا بالشح منذ اللحظة الأولى. سوف نكون مضطرين إلى أن نعود إلى مقالاته كي لا يأخذنا الكثير من غيرها إلى اللاشيء واللامعنى.
هل كان ممكناً بغير ما يكتب جوزف سماحة في لحظة الغيبوبة الوطنية أن نوفر توقيعاً آخر للجودة والموقف والإبداع؟
قد تكون الحقبة أطول من زمن تجلياته، لكن مرتبة هذا التجلي في «السفير» و«الأخبار» جعلت منها حقبة جوزف سماحة في الصحافة العربية.
كبرت به الصحف الناشئة، والكبيرة منها أزدادت معه تألقاً واتساعاً.
عند غيره كانت الديباجة اللغوية تعويضاً عن عدم الفوز بالفكرة والمعلومة، وعنده كانت الثقافة كفيلة بجمال اللغة والتعبير.
حداثته رافعة لفكره، وموقفه، وانتمائه، والتزامه، بل إن المعاصرة عنده هي تدمير الحواجز بينه وبين العامة والخاصة من الذين ينتظرونه صباح كل يوم.
لو لم يكن جوزف سماحة هكذا، لما استطاع هذا الربط المحكم بين وعيه الاجتماعي ونضاله القومي.
لو لم يكن جوزف سماحة بهذا الغنى الثقافي والاتزان الفكري، لما استطاع وعيه الجدلي والماركسي أن يكون حاضنة ومقياساً لهمه القومي.
لقد غلب الجميع من أعداء فكره، واعترف له الأعداء بصمتهم بأنهم مغلوبون.
والذين توعدوه كرروا الإعلان عن مدى إصابته لهم. وحدها تلك الرزمة من التوتر التي تولد مع الكبار، والتي رافقته مناضلاً مثقفاً كاتباً استطاعت النيل من نبضات قلبه فأوقفته.
مات جوزف سماحة كبيراً وعظيماً من دون أن تدنسه شروط القيادة والشهرة.