لماذا استيقظت باكراً؟
حسين بن حمزة

جوزف...
في العشرين من شباط كتبتَ افتتاحيتك الأخيرة.
مرت خمسة أيام ثم جاءنا خبر رحيلك.
لا أدري لم ربطتُ بين توقفك المؤقت عن الكتابة وتوقفك النهائي عن الحياة.
قلت لنفسي: إن من تعوّد أن يكتب يومياً، تلك الافتتاحيات الجذابة النبرة والدسمة المعلومات، الذكية في عرض الأفكار والثاقبة والمفحمة في طريقة النظر إلى الواقع السياسي، لن يحتمل الإجازة والاسترخاء.
خطر لي، وصدقت ذلك (تصوّر)، أنّ قلبك الذي اعتاد إيقاع الكتابة اليومي وساعات العمل الطويلة ونهم التدخين، لن تناسبه الراحة، وأن أيّ توقف طارئ قد يكون نهائياً.
هل كان علينا، أن نُتعب قلبك أكثر، ونطالبك بأن تواصل كتابة افتتاحياتك من لندن لكي تعود إلينا حياً؟
جوزف...
أمس حين كنّا نحضّر العدد، أول عدد لم تقرأه من الجريدة، اتصلنا بمن هم في صفك ومن هم في الصف الآخر، الأصدقاء حزنوا لأنك كنت تقوّيهم برأيك وتعزّز حجّتهم، والخصوم افتقدوك لأن قراءتهم لك كانت تدفعهم إلى استدعاء أمضى ما في مخيلاتهم.
جوزف...
أنا، كما قال عباس، واحد من الذين ستخلو حياتهم منك، إذ سيصعبُ علي البدء بالصباحات التالية لغيابك من دون أن أعرف رأيك فيها؟ سيصعب علي إنهاء ما أكون بصدد إنجازه لعدد الغد، من دون أن أرفع رأسي عن شاشة الكومبيوتر، وألمح قامتك النبيلة من خلف زجاج الكوريدور، ذاهباً، برفقة سيجارة مشتعلة، لتلقي نظرة على الصفحات في الإخراج، أو عائداً إلى مكتبك، منزِّهاً فكرةً تدور في خيالك، لتكتبها هناك.
جوزف...
كانت “الأخبار” حلمك
انتقيتنا واحداً واحداً وأدخلتنا إليه
لماذا استيقظت باكراً؟



صحافة يسارية راقية تدافع عن شرعية المقاومة

محمد السيد سعيد

لا يبدو لي رحيل الصديق جوزف موتاً شرعياً. وقد شرعت بالفعل في كتابة بيان تقليدي يدين الموت ويشجب فعلته هذه... كأن جوزف اغتيل كما اغتيل سمير قصير، وعشرات من صحافيي لبنان خلال السنوات الأخيرة.
ما قام به ملاك الموت هذه المرّة يعدّ عملاً إرهابياً بكل المقاييس. ويبدو الأمر كما يأتي: في لبنان مبدع كبير يتفتح بكل طاقاته على مشروع صحافي وثقافي وفكري كبير، أقلقت ولادته الإرهاب الوجودي العالمي. فتقصّى تحركاته وعلم أنه ذاهب للتعزية في لندن فنصب له كميناً هناك، وباغته بسرعة البرق، قبل أن يستطيع مناداة الحياة والأصدقاء والأمة كلها للدفاع عنه. لا. ليس من المنطقي أن نعدّ هذا الرحيل موتاً شرعياً.
ليس هناك ما هو مشروع في أن يتم اختطاف جوزف سماحة وهو الذي يبرق في السماء العربية واللبنانية من جديد. أظن أنّ هذا هو الانطباع الأول والأخير الذي أثاره في برق ناعم ـــــــ اضاءة نجمية في ليل بهيم ــــــ فكرة متقدة فى زمن إدبار الأفكار، وانسحاب الخرائط وتداعي المعابد. كان قد أنجز لتوّه أول معركة فكرية كبيرة في لحظة الاختلاط العظيم أثناء الحرب الاسرائيلية المجرمة على لبنان. لا أعني فقط معركة بناء “الأخبار” احتجاجاً على جريمة تدمير لبنان الجميل من جانب إسرائيل وأميركا، وإنما أعني معركة إعادة تأسيس شرعية المقاومة، وهي الشرعية التي تكرّست قدرات كبيرة دولية وعربية لتقويضها. لم يكن معه كثيرون من أصدقائه التاريخيين، ولم يكن معه بئر نفط أو ترسانة إعلاميّة، بل ولم يكن معه حتى هذا الوضوح اللذيذ الذى يسكن المهمة فى قلب اجماع جاهز. كل ما كان معه عقل نظري فذ، وقلب صنع من ماء وورد، وكان معه فيض من مهارات الصحافي العظيم.
بالطبع لم تكن هذه أولى معارك جوزف سماحة. فقد خاض مئات منها. لكنه خاضها هذه المرة وحيداً تقريباً بين رفاقه القدامى الذين أرهقهم الارتباك بين الحقيقي والعملي، فغيّروا اتجاه الشراع وصاروا خصوماً للمقاومة التماساً لوهم الراحة والهروب من قدر التضحية. لا أدين أحداً بالطبع غير خيانة ملك الموت الذي اختطف جوزف، وهو لم يكد يخطو سوى خطوة البداية في مشروعه الطموح. ولكن من المهم أن نوثّق هذا الانفراد أو شبه الانفراد بين أبناء جيل أعياه الهمّ العربي، ونال من روحه. صمد جوزف على الرسالة، ورفض ارتداء ملابس الحكمة الرسمية فى سهرة فاخرة لرثاء أو لنقل هجاء المقاومة والعروبة و“الأفكار القديمة”.
كان مشروعاً طموحاً بالفعل. تحدث معي في مكتبي أثناء زيارة سريعة للقاهرة قبل إطلاق “الأخبار” بشهرين على الأكثر. باعتباره كائناً صحافياً خالصاً ــــــ قبل أي شيء آخر، كان يرى أنّ من الممكن لليسار القومي والوطني أن ينشئ صحافة راقية من الناحية المهنية. وتحدثنا عن تفاصيل حلمه الكبير قبل أن يولد. اتفقنا على أن القطع الحديث الذي تصدر به “لوموند” تقليدياً ثم الـ“غارديان” وغيرهما من الصحف الأوروبية الكبيرة مثالي حتى في البيئة العربية المحافظة التي ما زالت معتادة على القطع الكبير. وتحدثنا عن أهميّة أن تدخل الصحافة العربية مرحلة جديدة هي التركيز على قلب المهنة، وخصوصاً التقرير الاستقصائي، وأن تمتاز فيه رغم غياب بيئة شفافة في بلادنا العربية. وتحدثنا عن الأسلوبية. واستقر رأينا معاً على أن تثبيت صورة القارئ العربي الكسول الذي لا يريد أن يرهق نفسه بقراءة صحافة راقية جريمة، وأن الصحافة يمكن ويجب أن تخاطب القارئ العربي كفاعل وكإنسان... كأنها تعيش معه في المطبخ، وفي الـ“بدروم”، وفي الشارع، وفي ميدان القتال، وفي المرسم وحجرة الموسيقى. وتحدث هو كثيراً عن الموسيقى... واعتقدتُ أنه مقطوعة من مؤلفات كورساكوف: هادئ مثل النعامة من الخارج، وصاخب مثل شلال من الداخل. واتفقنا على التعاون فى مشروعينا: “الأخبار” في بيروت و“البديل” في القاهرة... ولم نتعاون!
ظهرت “الأخبار” في بيروت، ولم تسمح السلطات بإصدار “البديل” في القاهرة. ولأني كنت أنتظر أن نصدر “البديل” حتى نتعاون، يزداد حقدي الشخصي على الموت الإرهابي، إذ اختطف هذا الصحافي العبقري ذا القلب الصحيح الذي سقط من دون إنذار مسبق، في يوم ننتظر فيه جوزف المقاتل الذي لم يتعب.
لعل في بيروت، وفي “الأخبار”، عشرات من مشروعات جوزف، فنكون قد هزمنا إرهاب الموت.



القلم النظيف

محمد بنجك

«راح جوزف يا محمد».. كلمات كان لها وقع الزلزال عندما اتصل بي الأخ حسين حمية ناعياً الأخ والصديق والزميل والمحب جوزف سماحة.
كان جوزف من صنف الرجال الرجال، منارة من المنارات الاعلامية المشعة في وطننا العربي، لا في لبنان فقط، وصاحب بصمة خاصة جداً في الكتابة السياسية الهادفة والصادقة، الواضحة والصريحة، المباشرة والدالّة.
كان يقرأ بنهم وتقرأه بنهم. مقالته من الصنف الذي لا يمكن أن تمرّ عليه من دون أن تغوص فيه، تتعلم منه، وتتثقف به، وتضيفه الى معلوماتك، وتستشهد به، وتستنير بصدق تحليله، وصدقية مقصده.
جوزف من الكتّاب الذين يشرفون مرتبة الشرف بامتياز. كان يصادق بشرف، ويخاصم بشرف، ويفرض احترامه على كل من حوله، القريب والبعيد، لأنه من القلائل الذين يشار إليهم بالبنان، ممن يمتلكون السجال النظيف والعصامي والنزيه.
وجوزف من الكتاب الذين تتمنى أن يكونوا من بين من يرثونك، ومن الرجال الذين تتمنى ألا يفرض عليك القدر أن تحمل قلماً لترثيهم، ومن الرجال الذين يحرق القلب غيابهم، ومن الرجال الذين يعزّ عليك افتقادهم. كان قلمه ماضياً كحد السيف، يمكنه أن يذبح، في السياسة طبعاً، لكن من دون أن يجرح، وهو الذي لا يمكن بل يستحيل أن يؤذي أحداً، مثلما يفعل غيره من الكتبة الذين يبرعون في الشتم والقذف والقنص والقصف ويبدلّون مواقعهم وأقلامهم مثلما يغيرون ثيابهم.
وكان جوزف طفلاً، لا تشعر بأنّ العمر ينال منه، من وجهه الصبيح من محياه المضيء، ومن ابتسامته المحببة، ومن عشقه للحياة، ومن حبّه لكل من يتعرف إليه.
من جلستنا قبل الأخيرة، الصيف الماضي، وكان يهيئ والزميل إبراهيم الأمين لإصدار «الأخبار»، أطلعني على بعض البروفات، وقال لي «ليتني أستطيع ان أترجم كل ما في رأسي»، وتمنيت له أن يمنحه الله العمر والقدرة على بلوغ ما يريد.
وصدرت «الأخبار»، وكانت من العلامات الفارقة. وكانت بصمة جوزف واضحة جلية فيها، وعليها. ومؤكد أنّ جوزف تعامل معها بحبه المعهود لهذه المهنة، مهنة المتاعب، ومهنة الإبداع في آن.
وسيسجل لجوزف أنّه صاحب القلم النظيف وصاحب الكف النظيفة، وأنّه الكاتب الذي لم يتلوّن يوماً، ولم يتجمّل يوماً، في زمن صار كل شيء فيه يباع ويشرى.
ولي عتب بسيط، أيها الأخ الصديق، أنك كنت تلحّ عليّ للعودة الى بيروت، وها أنت تغادرها، وتغادرنا، حتى من دون كلمة وداع.



لم أفوّت مقالة

هيثم حقي

خسارة ما بعدها خسارة. خسارة مبكرة فاجعة. أحسّها خسارة شخصية لي بالصحافي المثالي الذي يعلم كل من عرفني بأنه الأغلى على قلبي رغم أن معرفتي الشخصية به لم تتجاوز لقاءات متباعدة في مكاتب “السفير” وعبر أصدقائنا المشتركين.
لكنني عرفت جوزف سماحة معرفة حقــيقية يومية خلال سنـــين طويــــلة مـــن الإعجـــاب، وأستـــطيع أن أقول الانبـهار بعــــمـــق تحــــليله ووطــــنـــية موقــــفه وثبـــاته علــــيه.
منذ الحرب الأهلية البغيضة إلى يومنا هذا، كان جوزف سماحة بالنسبة إلي البوصلة التي لا تحيد أبداً عن التوجه إلى الشمال الصحيح رغم اختلاط الاتجاهات عندنا جميعاً. كان أول ما أقرأه منذ سنين.
ومع صدور “الأخبار”، لم أفوّت مقالة واحدة له. ومنذ أيام، افتقدته وتعللت بتوقف الحال السياسية. لكن آخر ما كان يخطر لي أنني سأفتقده إلى الأبد. فهل يعقل أن أفتح “الأخبار” ولا أتجاوز معه “الخط الأحمر” وأفتح عيني على خفايا ما يجري ببساطة اللغة ومتانتها وعمق النظرة الثاقبة وصدق الموقف؟!
كم هي مؤلمة حياتنا؟! كم هي ظالمة هذه الدنيا؟! حتى بصيص الشمعة في هذا الظلام الحالك تضنّ علينا بها؟!

وفي الليلة الظلماء...

أحمد المديني

السّماح يا سيد سماحة، أن نرثيك وقد رحلت، عوض أن نمجدك وأنت بيننا حيّ.
السّماح، فما عوّدنا دهرنا، تاريخنا، مذ أجدادنا الأُول، إلا البكاء على الأطلال، ونعي الأحبة في الحِلّ وفي الترحال.
السّماح يا جوزف، لروحك، قامتك النخلة، ظلك العالي، المتعرش مثل أرز لبنان، هو خلّي وطلّي.
السّماح، إذ لا أستحضرك إلا بعد فوات. نتذكرك، نتبناك، نتنازعك من ممات، وقد كنت بيننا ناعم اللمسة، سريع الرعشة، حفيف الخطوة، باذخ الحظوة، لكن ما أقواها، أصدقها، أقومها، كلمة منك باطشة، رادعة للغيّ، حقٌ ضد البغي، إنصافٌ في سحنة الظلم، شهامةٌ ورفعةٌ في وجه السفلة والأنذال، كبرياءُ أخرى يعلو بها شموخ القلم، لا يقبل المساومة ولا المهادنة، لم يُفلّ له سلاح يوماً، ولا ارتضى الانسحاب من أي معركة كي يبيض ويصفر بعده الجبناء.
السّماح يا سيدي سماحة، لم أعرفك إلا قليلاً، كما لا يُعرف كل نادر إلا من بعيد، وأظنني امتلأتُ بك كثيراً، منذ الزمن الثمانيني في باريس التي شردتنا، وبعدها بلاد العرب التي قهرتنا، كان صديقك الصحراوي وخلّي المغربي محمد باهي، يلهج بذكرك، هو الذي اعتاد أن يقيس الناس بميزان الذهب، والصحب حولك من عرب ومن عجم، يتنافسون سجاياك، وشعبك من قراء نابهين، مطرقين، ينتظرون دائماً، كالبشرى أو النذير، كلماتك الجديرة بنبوءة، أو بعث ونشور.
الكلمات المضيئة، الصامدة، الصابرة، تنقُش مزيد تحدٍّ في أخاديد العمر، يا لعمرنا!
الكلمات المضيئة، في عتمة ليل العرب الطويل، تسقط نجوُمها تباعاً، وها موُتك بين آخر الأقمار يأفل، أنت الضوء الذي منّا وفينا، إننا لا نكف نأفل، نذهب إلى موتك الغادر، ونحن لا نعرف أين نمضي، أم إلى مزيد ظلمة وأفول.
وسنعطش أكثر للكلمات المضيئة. ليدٍ تمسح الجرح، وها الكلاب والذئاب من كل زاوية تتناهشنا.. ولصوت لم يبحّ، وزندٌ حبره إعصار.. في هذه الحقبة السوداء.. وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر!
في أيلول (سبتمبر) الماضي جئت بيروت أتفقد ما حلّ بي، بأهلي وصحبي من خراب، فأبيت إلا أن أزورك، لأحييك كما فعلت من قبل في باريس وفي “السفير”، ولأنقل إليك تحية حبيب لك وُمعلم كبير، بلال الحسن، حمّلنيها من باريس أمانة، ولأهنئك على مثابرتك. ويحي، ما كنت أعلم أني جئت للسلام الأخير، ولا هو يبعث تحية الوداع، ويحنا!
السّماح يا جوزف السماحة، فالكلمات أقل من الحزن والقهر فاضت فجيعته فوق الجمام، أووف، من بين زحام الغبن والجور والغضب المستعر، كيف مررتَ يا ذا الجبروت الحِمام؟



ستار
طريف الخالدي

من الناس إذا كتب اصطحبك فوراً الى رصافة عقله.
قرأته أوّل مرة أوائل الثمانينيات في المقال الذي كتبه في المشنقة التي علّقها رئيس البلاد آنذاك لقاتل «مجنون». قلت في نفسي: هذا مقال نضاهي به نحن العرب أروع ما قد يكتب اليوم في صحافة الأمم. مقال واحد أنهى عصر مركّب النقص. ومنذ ذلك الحين لم يعد بمقدوري أن أفهم ما يجري من حولي من دون اللجوء الى جوزف سماحة. أصبح بالنسبة إليّ شيخ المفسّرين السياسيين العرب.
لم أحظَ بلقائه، ويا للأسف، سوى مرتين. شعرت بأنّني أمام أستاذ كبير لا طائل من مناقشته، ففي الاستماع إليه فقط متعة ومنفعة بالغتان: أنا الذي أكسب الرزق من المناقشة! لكن عندما نقع على مثل هذا الشهاب الفكري الثاقب، لنر أولاً كيف ينير الظلال. واليوم، بعد ذهابه، عادت الظلال وانسدل الستار.
أتمنّى أن يعمد أصدقاء جوزف وزملاؤه الى إصدار مجموعة من مقالاته المختارة في كتاب يصدر في أقرب فرصة بعد أن تجف الدموع، هذا إذا جفّت.



مات كما عاش: طليق اليدين، حرّاً

أسعد أبو خليل

لم يكن رجلاً عادياً. لم يكن صحافياً عادياً. جوزف سماحة: كان نوعاً آخر من الصحافيين، في لبنان وفي العالم. مع جوزف سماحة، كنتَ تشعر بأنّ الصحافة شكل من أشكال النضال، في وطن (هذا إذا جازت تسمية لبنان بالوطن) تحولت فيه الصحافة إلى نوع من أنواع الارتزاق والارتهان. كم واحداً مِن رؤساء التحرير العرب يستطيع أن يقول إنّه لم ينحن يوماً لأمراء النفط؟ كم من صحافيي وصحافيات لبنان، لم يضعف أمام مال الحريري؟ كم مِن صحافيي العالم العربي لم يغيّر قناعاته إرضاءً لمصدر تمويل؟ اسم جوزف يرد دائماً على رأس قائمة قصيرة جدّاً، لدى الإجابة عن كل هذه الأسئلة.
سياسياً، لم يكن جوزف عادياً. اختطّ لنفسه خطاً سياسياً مميزاً. كان بعضهم يقول، وخصوصاً بعد اغتيال الحريري، إنّه سياسياً مع جوزف سماحة. خلط بين ماركسية ليبرالية فرنسية وقومية عربية ناصرية منفتحة. لم يقع في مزالق طائفية، ولم يتحول كغيره من جيله من الصحافيين اليساريين (سابقاً) العلمانيين (سابقاً) إلى مبشّر ديني أو طائفي، أو إلى يميني يدعو إلى الاقتداء بدعاة الرأسمالية المتوحشة. لم ينس موضوع العدالة الاجتماعية: وهو موضوع لا يحظى باهتمام فريق السلطة الذي يروّج لمشاريع البنك الدولي تحت عنوان «الإصلاح»، ولا حتى باهتمام جدي وعملي من جانب المعارضة التي يرفع بعض فرقائها شعار مصالح الطبقات الشعبية للمساومة السياسية.
كان جوزف فريداً. تنظر إلى صف طويل من رعيل الصحافة اللبنانية من جيل جوزف (ومن أصدقائه الخلص) تعدّهم واحداً واحداً: هذا تحول إلى بوق دعائي لعائلة حاكمة مستجدة، آخر يبشّر بعقيدة بوش من دون خجل، آخر يكتب ابتهالات دينية، وآخر «يحاضر» أمام رديف اللوبي الصهيوني في واشنطن داعياً فيه العرب (من واشنطن) إلى «تشرّب» فكر بوش «الديموقراطي»، وآخر ينتقد القمع في سوريا، ويغض الطرف عن القمع في باقي الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة. وحده بقي. لعل هذا يفسّر صداقاته مع من يختلف معهم في الرأي. ماذا عساه يفعل؟ هل يبقى وحيداً؟ وحيداً في لغته الخشبية. كم كان مثيراً للسخرية أن ينتقد من احترف اللغة الخشبية (في صيغتها القومجية وفي صيغتها الأميركية) جوزف سماحة. ماذا يمكن أن تقول عن جوزف سماحة غير أنه كان مبدئياً. أنه كان نظيفاً. أنه لم ينحن. بقي فوق الطوائف والمذاهب. لم ينتم إلى طائفة، ولم يحتمِ بطائفة.
تحول هذا الفريد بعد اغتيال رفيق الحريري إلى مؤسِّس لخط سياسي مستقل. أصبح له أتباع: ينتظرون إشاراته ليحددوا مواقفهم (ومواقفهن). كم رجوته أن نجمع مقالاته في تلك الفترة في كتاب. رفض بإصرار. لم يتحول إلى نجم تلفزيوني مثل عدد من زملائه. لا يحب الظهور التلفزيوني. قال لي مرة إنّ في الظهور التلفزيوني نرجسية لم يرتح لها. سألته بعد أشهر من اغتيال الحريري إذا تعرض لضغوط أو لإشارات. قال إنّ له في «السفير» مطلق الحرية للتعبير عن آرائه. سألته إذا ما كان يُخضع نفسه لمراقبة ذاتية. أجاب بالإيجاب. طلبت مثالاً. «وليد جنبلاط، مثلاً». أخبرني أنّه قرّر أن يتجنب التعرض لوليد جنبلاط بالمطلق نظراً لتاريخه (وحاضره) «غير الديموقراطي».
كان جوزف بسيطاً في شخصه، ومعقداً في فكره. كان يكتب بطريقة فريدة أخّاذة. كان يفكّر ويحلّل بصورة مميزة لا تُقلد. تركيب جمله كان معقداً لأنه كان يغوص في التحليل، يذهب إلى أبعد من الظاهر. كان يذكرني أحياناً بميشال فوكو: لنفوره من المباشرة. وكان جريئاً في فكره وخياراته: ترك أكثر من موقع صحافي ليخوض غمار مغامرة جديدة. كان يعلّم بالمثال والنموذج، لا بالوعظ والإرشاد على طريقة بعض أساطين الصحافة في لبنان. وضع صورة عبد الناصر في مكتبه في زمن تحولت فيه القومية العربية (فقط القومية العربية) إلى سبة عند «حضاريي» ثورة الأرز. دعم المقاومة ضد إسرائيل في زمن كرّر فيه يساريو وتقدميو الماضي غير السحيق مقولات شارل مالك الركيكة عن «محاكاة حضارية» بين لبنان وإسرائيل. بقي جوزف علمانياً في زمن يجاهر فيه الجميع بطائفيتهم ومذهبياتهم. ويجب ألا ننسى أنّ جوزف لم ينس فلسطين. فلسطين وقضية فلسطين لم تكن عنده موجة، كما كانت عند غيره، أو «فوشة كبد». فلسطين كانت القلق والهاجس حتى في وطن يجاهر بعنصريته ضد شعب فلسطين. جوزف سماحة لم يتوقف عن التعلّم ولم تضعف حشريته العلمية في زمن يتصوّر فيه بعضهم أنّ ذروة العلم تكمن في حفظ خطب هذا الزعيم أو ذاك. جوزف سماحة لم يخجل من أنّه لم يقبض «الكيانية اللبنانية» يوماً واحداً على محمل الجد. كان أفق جوزف قومياً وأممياً من دون التباس.
ماذا تَفعل من دون جوزف. من تَقرأ؟ ضاعت البوصلة. كان يمعن تفكيراً وتحليلاً موفّراً علينا عناءً وجهداً. لم يكن زعيم قبيلة أو عشيرة أو طائفة. لعل الوطن الغارق في أوحال الطائفية والمذهبية ضاق به. لعل عصر بوش كان فوق ما كان بمقدور قلبه أن يتحمّل. عبثاً تحاول إذا فتشت عن مقلد أو عن بديل. لا بديل له أو منه. إنه صنيع وحده. مات جوزف سماحة كما عاش: طليق اليدين، حراً.



العابرون سريعاً جميلون

حسن المصطفى

للغياب سطوته. سطوة تحيله حضوراً يجنح للذهاب عميقاً في داخلك. غياب يجعل ذلك «العابر» سريعاً، مقيماً دائماً، ومفردة أساساً من تكوين روحك لم تشعر بها إلا ساعة ابتعدت عنك.
«العابرون سريعاً جميلون»، يقول وديع سعادة، مستفيضاً «الأكثر جمالاً بيننا المتخلي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب».
سعادة وصف الجمال الأبهى عند اكتمال البدر في زرقة السماء، إلا أنه لم يحكِ لنا عن كُحل الألم الذي يرتسم في عين الفاقد. الكحل الأسود المزدانة به عيون النسوة النادبات.
هو في سديم الأبد، وأنا هنا في القطيف، شرقي السعودية، أعدّ حقائبي للعودة إلى بيروت، وأمنّي نفسي بلقاء قريب معه كنّا اتفقنا عليه في آخر فنجان قهوة احتسيناه معاً.
أحاديث طويلة كانت ترافقنا طوال الفترة السالفة. تبدأ بـ «الأخبار» الجريدة، وتعبر الموالاة والمعارضة، وتصل إلى العراق والخليج والسعودية، وحرب تموز وتداعياتها على التجاذبات المذهبية في الخليج، وتنامي الأصولية التكفيرية.. نختلف، ونتفق، ننتقد، ونمتدح، ويظل خيط الكلام غير مكتمل بانتظار اتصاله من جديد.
في كلّ مرة كان يطلب مني جوزف أن أكتب مادة عن السعودية، والوضع السياسي والاجتماعي والثقافي هناك. وأنا أعدهُ خيراً. تمرّ الأيام ونلتقي ويكرّر طلبه، وأنا أعده خيراً. كنت أهب لنفسي فسحةً من الوقت، وأسليها بأنّ عذري معي، بسبب انهماكي ومجموعة من الأصدقاء في الإعداد لمشروع صحافي جديد، أطلعت جوزف لاحقاً على تفاصيله. حينها، وجد لي من العذر القليل، وقدم لي من المساعدة لإنجاح المشروع الكثير.
فسحة الأمل، والوقت الذي حسبته رحباً، لم أخلّه يباغتني فجأة. كنت خائفاً على جوزف من عبوة عمياء. من مأجور طائش، من سياسي يحرّض ضده، وما أكثر المبغضين، لكن أن يضعف قلبه، ويفلت منه نفسه، ويستعذب إغفاءة المحارب، فساعةٌ لم تكن على بال أحد.
أسترجع افتتاحية جوزف في عدد «الأخبار» الأول، حينما أكد على حرية الصحيفة وحداثتها وتعدديتها، وانفتاحها عــلى الجــــميع بدون استثناء.
افتتاحية هي اليوم أشبه بالوصية والمنهاج الذي على الجميع أن يحرص عليه، لنكون أوفياء لحرية وحداثة طالما دافع عنهما وأكد عليهما، ودون ذلك، سيكون لنا من جرم الاغتيال القلبي نصيب وافر، بل النصيب كله.



سلّم على سمير، رفيقك

إيف غونزاليس

كان سمير قصير صديقي... وجوزف سماحة أيضاً. الجمع بين الاسمين يبدو صعباً للغاية في لبنان اليوم، بل يبدو من المفارقة ذكر اسم سمير في مثل هذه الظروف، هو الذي اختار مساراً نقيضاً لتوجّه جوزف، خاصة في المرحلة الأخيرة من حياته. إلا أنّ الأمر لم يكن كذلك دائماً، ولا أزال أعتقد أنّنا على حق عندما ننظر إليهما كصديقين ــــــ بل رفيقين إذا أمكننا استخدام هذه الكلمة التي صار بعضهم يراها شتيمة. لماذا ذلك؟ ألأنهما كانا يكتبان أفضل ما يمكن طبعه في الصحافة السياسية العربية؟ أم لأنهما كانا يحظيان لدى فئة من الشباب اللبناني (ولا أقول “فئتين”) بالقدر نفسه من الاحترام والإعجاب؟
فاجأني خبر اختفاء جوزف، بعد ساعات من نقاش حاد ومؤلم جمعني بصديق قديم وعزيز، حول مواقف جوزف الأخيرة... وما كان يؤديه من خلال كتابته في جريدة “الأخبار”.
أعرفه هذا الصديق، أعرفه جيداً وأعرف كم كان صديقاً لسمير... أعرفه جيداً وأعرف أنه، رغم قسوة ما قاله ذلك اليوم، يشاركنا الآن وجعنا وألمنا لاختفاء جوزف المفاجئ. وداعاً يا جوزف، وداعاً يا مي... سلّما على سمير ولا تنسيانا. نفتقدكم جميعاً... كثيراً.



مثقّف عضوي بامتياز

سركيس أبو زيد

عالم جوزف سماحة هو عالم الثقافة الملتزمة بقضية تساوي وجوده، فيعطيها كل ما عنده بعيداً من التفاصيل والجزئيات والحرتقات الصغيرة. هو صحافي مسكون بالفكرة والاستراتيجية والمصير، لم يخلط يوماً بين الالتزام المهني ومغانم المواقع. هاجس جوزف سماحة هو الحقيقة والمعرفة، أما المظاهر وبهرجة الحياة فلم تكن يوماً في مفكرته اليومية. فهو مثقف عضوي بامتياز، دافع عن فكرته بالقلم والكلمة ونمط الحياة، فاحترف النحت بالكتابة وترهب لقناعاته مختاراً.
جوزف سماحة ركب فرس الثقافة والنضال، لكنه سقط عن صهوتها فارساً، في الموقع والمكان والزمان الخطأ، هو لم يسعَ لذلك أبداً. قدر المناضل دائماً أن يقول كلمته ويمشي، قدره أن يغيب، وأن تبقى كلماته محفورة على صدر التاريخ.
جوزف سماحة، مثقف متواضع، لأنه أدرك أن المعرفة أبقى من المناصب والمهرجانات والمظاهر الفانية.
جوزف سماحة اسم جديد للمثقف المتواضع، في زمن تحول فيه الصحافي الى مستشار في البلاط، والكاتب الى “بياع كلام”. جوزف سماحة اختار الانسجام مع نفسه وفكره وقناعاته، فانحاز الى الرأي الجريء على حساب المظاهر، وإلى الكلمة على حساب الصورة البراقة.
قيل: الاستغناء غنى، وهو كذلك، جوزف سماحة غني لأنه أتقن فن الاستغناء عن مكاسب المناصب وأضواء المسرح وزهو كراسي الحكم. في زمن انتشار الانتهازية والوصولية السهلة، شق جوزف سماحة طريقه الصعبة في معارضة الشواذ والانحراف والاستبداد والاستسلام. ورغم مواقفه الحادة والصريحة، عرف جوزف كيف يحافظ على صداقاته وعلاقاته الحميمة مع رفاقه وزملائه الذين اختلفوا معه في الموقف والموقع. فالاختلاف في الرأي لديه لم يفسد للود قضية.
جوزف سماحة، لم تكن مجرد صحافي يكتب، كنت خطاً ونهجاً.
رحلت أنت، وبقيت من رواد الكلمة الحرة وفرسان الصحافة... والقدوة.
في غيابك أيها الكبير، نفتقد وقعك الصامت، وبصمت نتذكرك.



أنّى له أن يرحل؟

هالة نهرا

رأيته للمرّة الأولى في كنف صحيفة “السفير”… بُعيْد ملازمته العتيدة مقدمة الواجهة الاستثنائية لقراءاتي السياسية اليومية، بل شبه اختصاره إيّاها في لفيف مضمونه التحليليّ، قبل أن أراه.
لامستُ قامته الحاضرة في ركن الزاوية الحميمة الخاصة بمكتب الصديق المشترك حلمي موسى؛ حين تجاوز جوز\ف سماحة هامش الزمن الضيّق الذي طالما أسره، ومسافة الجدار القدريّ في ارتياده أُسس الهيكل المربّع أو المستطيل، حيث كان ينزوي أمام صدقية قلقه الوجودي وتجاعيد اليوم المنصرم.
أنّى له أن يرحل، دونما البوح أو الإنذار، في صميم خاصية الوضع اللّبناني والإقليمي الراهن، في ظلّ حاجة المثقّف الحالية الملحّة إلى المثابرة على ارتشاف واقع اللّحظة من خلال عموده التخصصي المنطوي على شهادة تاريخية قد تصابت خلسةً، لتُجاريَ مقتضيات الظرف والصعاب المتوالية.
هل من سبيل لتخطّي تلك المكانة الرمزية الشاغرة في ذاكرة الذاكرة … أمام فراغ الكأس الذي خلّفه فجر البارحة على طاولة البحث، قبل أن يغادر في عري الصمت المخيف، وغربة حلول نُظُم الجديد السائد الموغل في القِدم؟
جوزف... لا يسعني اليوم إلاّ أن أعيد قراءتكَ واستقراء مسوّداتك مع كلّ قهوة صباحية.