نقولا ناصيف
في انتظار حلول 20 آذار المقبل، موعد بدء العقد العادي الأول لمجلس النواب، يسعى فريقا الغالبية الحاكمة والمعارضة، كل إلى ترتيب موقعه في النزاع الداخلي بالاستناد إلى الجمود الذي يسيطر على مواقفهما والأفرقاء الإقليميين الرئيسيين المعنيين مداورة بهذا النزاع. في هذه الأثناء ارتسمت سقوف أولى لإدارة المرحلة القريبة من التجاذب: لا انعقاد لمجلس النواب قبل بتّ مصير حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ما دامت الصلاحية في يد الرئيس نبيه بري وحده، كما إنه من غير المؤكد أن شرعية حكومة السنيورة ستكون في مأمن من طعن جدي في دستوريتها سينشأ عن قرار بات الرئيس إميل لحود أكثر اقتناعاً بجدواه من بقائه هو في قصر بعبدا بعد نهاية ولايته الرئاسية، وهو إصدار مرسوم اعتبار حكومة السنيورة مستقيلة ودعوته إلى استشارات نيابية ملزمة لتأليف حكومة تخلفها. إجراء كهذا يُرجّح أن يُقدم عليه قبل أكثر من شهر من دخول البلاد في المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، في أيلول المقبل.
أما ملامح جمود الأسابيع الثلاثة المقبلة، فتبيّنها المعطيات الآتية:
1 ـــــ تعويل كل من قوى 14 آذار والمعارضة على عامل الوقت لاحداث تغييرات في التوازن السياسي المحلي. إذ بمقدار ما تُشعِر المعارضة الطرف الآخر أن في وسعها تهديده بتحريك الشارع والعصيان المدني واستمرار الاعتصام المفتوح، تهدد الغالبية، ولا سيما حكومة السنيورة، المعارضة باللجوء الى مجلس الأمن لإقرار مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحت أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وفي واقع الأمر، فإن كلاً من الطرفين أخفق في إلقاء الرعب في قلب الآخر: لا المعارضة في صدد تكرار تجربة 23 كانون الثاني الفائت لإسقاط حكومة السنيورة، وقد خبرت بعض نتائجها غير المتوقعة، وردّت عليها الغالبية في 25 كانون الثاني بافتعال مواجهة دفعت بالطرفين إلى شفير حرب شوارع وفتنة مذهبية مدمّرة ـــ ولا الغالبية متيقّنة من أن تعذّر إقرار مشروع المحكمة الدولية في المؤسسات الدستورية اللبنانية سيؤدي الى إقراره تحت أحكام الفصل السابع، ولذا تسعى بشتى الوسائل والاجتهادات لإمرار المشروع في الآلية الدستورية وإبداء مرونة في معرفة ملاحظات المعارضة على المشروع.
وهكذا سقط الطرفان أسيري عجزهما عن الاستمرار في مجازفات قاتلة وفق المعادلة الآتية: لا محكمة دولية بالقوة، ولا محكمة دولية تحت أحكام الفصل السابع، ولا إسقاط بالقوة لحكومة السنيورة، ولا تحريك بالقوة للشارع للتسبب بنزاع مذهبي.
2 ــــ توقف الحوار السعودي ـــــــ الإيراني حيث انتهى في محطته الأخيرة قبل أقل من أسبوعين، عند اتفاق الطرفين على أن يعود كل منهما الى القاعدة اللبنانية التي يتكئ عليها في النزاع السياسي لاطلاعها على فحوى ما بلغته اتصالات الدولتين الإقليميتين القويتين. إلا أن ذلك لا يحجب استمرار الحوار السعودي ـــ الإيراني في ملفات العلاقات الثنائية بين البلدين. أما المحطة اللبنانية الأخيرة في هذا الحوار، فأضحت بدورها لغزاً محيّراً تستغله الغالبية والمعارضة على السواء، وتنقض إحداهما ما تكشفه الأخرى، والعكس صحيح، حتى بات من المستعصي التحقق أي من الطرفين اللبنانيين يَصْدق؟ وأيهما يكذب ويناور؟ فما تنفيه قوى 14 آذار، تؤكده أوساط المعارضة، وهو أن السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجة أبلغ إلى بري قبل أكثر من أسبوع موافقة الرياض، في حصيلة حوارها مع طهران، على تسوية تقول بتأليف حكومة وحدة وطنية وفق معادلة 19 وزيراً للغالبية و11 وزيراً للمعارضة بالتزامن مع مناقشة تعديلات مقترحة على مشروع المحكمة الدولية، حملت بري على إشاعة انطباعات إيجابية عن حل وشيك. أما ردّ فعل قوى 14 آذار، فهو أنها منفتحة على البحث في الثلث المعطل من دون تأكيد موافقتها على إعطائه للمعارضة، لكن بعد التحقق من الملاحظات المقترحة لتعديل مشروع المحكمة الدولية وأهدافها.
والواضح أن جزءاً من العقبات التي تعترض التسوية، إحجام المعارضة، وخصوصاً حزب الله، عن كشف ملاحظاته على مشروع المحكمة مع تأكيده أنه أعدّ مذكرة بها لا يعلن عنها إلا بعد أن يقرّ فريق الغالبية بموافقته على مبدأ الخوض في تعديل مشروع المحكمة. الأمر الذي لم يحصل حتى الآن. لا الغالبية متحمّسة لتعديل المشروع، وهي المرتابة بملاحظات تعتقد أن دمشق تقف وراءها، ولا المعارضة في صدد كشف ملاحظات ترى أنها جزء من مناورة الجلوس الى الطاولة ومعيار للتحقق من جدية قوى 14 آذار في التسليم بتعديل المشروع،
3 ـــــ على وفرة الحجج التي يتسلح بها طرفا النزاع في موقفيهما المتباينين من المحكمة الدولية، وأنها هذه هي لبّ المشكلة في التسوية العالقة، يلاحظ مطّلعون عن قرب على الموقف السوري أن دمشق تقارب موضوع المحكمة الدولية من جوانب ثلاثة على الأقل:
أولها، أنها تعتبر نفسها ولأسباب مبدئية وجوهرية ضد المحكمة الدولية في المطلق، لكنها لا تفصح صراحة عن هذا الموقف وتفضّل أن تغلّفه بعبارات ملتبسة ومشككة عندما تتحدث عن ملاحظات لها على الصيغة الحالية للمشروع.
وثانيها، اعتقاد القيادة السورية بأن ثمة صراعاً مريراً في المنطقة أدرج المحكمة الدولية في الآونة الأخيرة في جدول أعمال هذا الصراع. وعلى غرار بنود فلسطين والعراق ولبنان، فإن المحكمة الدولية باتت بدورها بنداً مستقلاً في ذاته في حمأة هذا الصراع، وجزءاً أساسياً من الاشتباك السياسي والدبلوماسي بين واشنطن ودمشق، بعدما كانت المحكمة في الأشهر الماضية جزءاً من بند لبنان المتشعب المشكلات والملفات. وتستخلص دمشق، في ضوء تحليلها لدوافع استخدام المحكمة الدولية في صلب مبررات الاشتباك الدولي معها، أنها لا تستطيع إلا أن تكون ضدها.
وثالثها، أن الأسابيع الجارية رفعت حرارة الملف الإيراني في التجاذب الإقليمي وخفّضت حرارة الملف اللبناني، الأمر الذي يشير إلى تراجع الاهتمام الدولي بلبنان في خضمّ تصاعد النزاع مع إيران على سلاحها النووي والجهود الدولية الجارية لتحديد الإطار المقبل للمواجهة معها بزيادة العقوبات الدولية عليها، أو الإعداد لضربة عسكرية على منشآتها. يدفع ذلك دمشق والدول المجاورة، المعنية بالملفين الإيراني واللبناني على السواء، الى إعادة ترتيب أولوياتها وتجميد ورقة نفوذها في لبنان في انتظار الوقت المناسب للاستفادة منها. على هذا النحو تتعامل العاصمة السورية مع الوضع الداخلي اللبناني وتكيّف موقفها منه بين أحد خيارين لإخراجه من جموده ومآزقه: تسوية محتملة تعتقد سوريا أنها ستكون شريكة فيها، أو انفجار الوضع الأمني، الذي يُخشى معه فقدان السيطرة عليه.