مخيم نهر البارد ــ عبد الكافي الصمد
لم تُسلّط الأضواء جدياً على الآثار الصحية والبيئية التي خلّفتها وراءها أحداث مخيّم نهر البارد، إن كان داخل المخيّم أو في جواره، وهي آثار تشمل التربة والهواء والمياه والشاطىء، ولن يكون بالإمكان تجاوز تداعياتها خلال فترة زمنية بسيطة، إذا لم تبذل جهود رسمية وأهلية كبيرة من أجل حصرها ومعالجتها

على امتداد 106 أيّام من المعارك في مخيم نهر البارد استُخدم كلّ ما أمكن من أسلحة متوافرة لدى الطرفين. فالجيش استعان بمخزونه من القذائف المدفعية والصاروخية المتوسطة والبعيدة المدى استعانة رئيسية، والمسلحون استخدموا قذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا ورصاص القنص، وهو الأمر الذي خلّف دماراً وأضراراً زراعية واقتصادية كبيرة في المخيّم ومحيطه، سرعان ما بدأت آثارها البيئية بالظهور تباعاً.
إن الآثار والعوارض البيئية والصحية بدأت تظهر على سكان المخيم وجواره، وباتت تستدعي جهوداً واسعة ومشتركة من أجل عدم تفشي الأمراض والأوبئة، واتساع رقعة التلوّث.
وإذا كانت هذه الأضرار بارزة بروزاً كبيراً في المخيّم، فإنّ ما لحق بمحيطه لا يقلّ فداحة عنه، حيث إنّ بلدات بحنين والمنية وببنين والعبدة تحديداً، برزت فيها بوضوح آثار تلوّث المياه والهواء والتربة، من خلال العوارض الصحّية للمواطنين، التي لا تزال آثارها واضحة حتى الآن، إضافة إلى آثار الدخان والغبار التي انبعثت نتيجة الانفجارات والحرائق المتتالية، والتي كوّنت طبقة سميكة من «السواد» لا تزال آثارها بادية للعيان على أوراق المزروعات وغصونها وشتولها في هذه البلدات، وهي مرشحة أن تتفاعل سلبياً أكثر في الأيّام المقبلة، في حال هطل الأمطار واختلاط هذه الطبقة بالتربة ومياه الريّ والآبار الجوفية.
عضو «اتحاد الأطباء الفلسطينيين» الدكتور رائد الحاج أوضح لـ«الأخبار» أنّ الأضرار البيئية للمعارك «توزّعت على ثلاث مراحل: الأولى تتعلق بالمخيّم وبمن كان يقطنه أثناء المعارك، والثانية تتعلق بالنّازحين الذين توجهوا إلى مخيّم البدّاوي وغيره، والثالثة بالنّازحين بعد عودتهم التدريجية إليه».
ففي المرحلة الأولى، يشير الحاج إلى أنّ «التأثير البيئي للمعارك شمل مياه الشرب التي فُقدت نتيجة تضرّر شبكات التوزيع التي تلوثت إثر تسرب مياه الصرف الصحّي إليها وتحلّل جثث البشر والحيوانات التي رُميت في الآبار الجوفية أو قربها، وشمل هذا التأثير كذلك الأطعمة التي فسدت بسبب عدم توافر ظروف حفظها عقب انقطاع التيّار الكهربائي، وعدم طهيها بسبب فقدان المياه والغاز، واستهلاك بعض الأطعمة الفاسدة، ما أدّى إلى انتشار الأمراض انتشاراً واسعاً كاد أن يتحوّل وباء من خلال تفشّي حالات الإسهال والاستفراغ والتيفوئيد وعسر الهضم، وأمراض أخرى في الجهاز الهضمي، وتأثير ذلك في مجمل أعضاء الجسم، إضافة إلى امتداد تأثير المعارك إلى الهواء، إذ نتج عن الدّمار الواسع في المخيّم إصابة الكثيرين بأمراض صدرية كالالتهاب الرئوي والربو، وحمل الغبار بعض المواد السامة الناجمة من انفجار القذائف، ورائحة الجثث المتحلّلة للبشر والحيوانات، والأطعمة التي فسدت وما تحمله من جراثيم.
أمّا في المرحلة الثانية، فيشير الحاج إلى أنّ «النّازحين انتقلوا إلى مخيّم البدّاوي الذي لم يكن مهيّأً للعناية الطبية المناسبة واللائقة، وهو استقبل أعداداً تفوق أعداد المقيمين فيه بضعفين تقريباً، حيث وصل عدد النّازحين والمقيمين معاً إلى أكثر من 40 ألف نسمة، يسكنون في رقعة لا تزيد مساحتها على كيلومتر مربع واحد»، لافتاً إلى أنّه «على الرّغم من أنّ المؤسسات الطبيّة عملت ليل نهار، فإن ظروف السكن والإيواء السيئة، والمراكز الصحية التي انتشرت في مخيّم البدّاوي، تحولت إلى أرض خصبة لانتشار الأمراض السارية والمعدية، والأمراض الجلدية والقمل والحكّة، والأمراض الصدرية وأمراض الجهاز الهضمي»، موضحاً أنّ «التدهور الصحّي الذي تبيّن من خلال ظهور حالات كثيرة من الأمراض المزمنة، أتى نتيجة انتشار غير مسبوق لحالات التوتر النفسي، والانهيار العصبي، والكآبة، والخوف والذعر، والعنف العائلي، ما استدعى تدخّل طواقم طبيّة تعنى بالجانب النفسي».
وفي ما يتعلق بالمرحلة الثالثة، يرى الحاج أنّ «الدّمار الكبير الذي لحق بمخيّم نهر البارد، أدّى إلى تلوّث كبير للماء والهواء نتيجة ما تركته مخلفات المعارك من قذائف وألغام ومنازل غير مُهدّمة كلّياً، لكنها آيلة للسقوط، وهذه المرحلة تتطلب تأليف لجان متخصصة وجاهزة من أجل فحص آبار المياه وتنظيفها وإزالة عناصر التلوث منها، وتنظيف أرض المخيّم من الجثث وعناصر التلوّث الأخرى، وتجهيز طواقم طبيّة وصحّية متخصصة، وهو أمر لم يحصل كما هو مطلوب، على رغم الجهود التي تبذلها الأونروا وهيئات ومؤسسات مدنية وإنسانية»، معتبراً أنّ «العمل الجدّي والسريع ضمن هذه النقاط، من شأنه أن يُخفّف كثيراً من تبعات ما حصل، وخصوصاً على المستوى البيئي».