نادر فوز
اعتمدت الحكومات اللبنانية منذ نشأتها النظام الليبرالي «المتطرّف»، فابتعدت عن دعم صغار المزارعين وفتحت أبواب أسواقنا أمام كبار التجار والمستثمرين، فكانت النتائج واضحة: احتكار، تفاوت اجتماعي واسع، غياب القطاع العام، وصرخات القطاع الخاص المنتج. أجهزت الاتفاقيات التجارية الخارجية على ما بقي من آمال في تحسين الأوضاع الاقتصادية، فأطبقت الخناق على السوق المحلية من صناعات وزراعات.
والواقع أنّ الدولة اعتمدت مبدأ التجارة والتبادل التجاري الحرّ لإدخال العملات الصعبة، وجسّدته عبر توقيع اتفاقيات خارجية كان أبرزها سياسة الجوار الأوروبية والمشروع الأورو متوسطي، إضافةً إلى تطوير اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية (1978) التي كان آخرها مشروع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (1997). ودخل لبنان عبر اتّفاقية برشلونة (1995) مجال التبادل التجاري بين الدول الأوروبية ودول حوض المتوسط، وانبثقت عن هذه الاتفاقية اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية. وينتظر لبنان موافقة الدول الكبرى على طلب «استقباله» في منظمة التجارة العالمية الذي قدّمه عام 1999.
ويكون لبنان بذلك انضمّ إلى النادي العالمي للدول الخاضعة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمات العالمية الاقتصادية الأخرى التي تطالب بتطبيق ما يسمّى «إصلاحات هيكلية» تتكوّن على الأغلب من عناصر السياسة النيوليبرالية. انخرط لبنان منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي في هذه السياسة، فابتعدت الدولة عن أي دور في الاقتصاد المحلي، وسعت إلى تحرير الأسواق، وانطلقت في عملية خصخصة القطاعات، وفتحت الأبواب أمام المضاربات العقارية والمالية تحت عنوان «تشجيع الاستثمار»، ورفعت الضرائب غير المباشرة وخفضت الضرائب على الرساميل، وعملت على تقليص عدد الموظفين في القطاع العام عبر مشاريع عديدة، آخرها التعاقد الوظيفي.
تجسّد المكسيك مثالاً نموذجياً في مسألة تراجع الاقتصاد الوطني في البلدان النامية التي توقّع على معاهدات واتفاقيات التجارة الحرة. فمنذ توقيعها اتفاقية NAFTA عام 1994 التي جعلتها شريكة للولايات المتحدة الأميركية وكندا، تشهد المكسيك تفاقماً في عجز موازنتها. وعلى الرغم من تصديرها 80% من إنتاجها، إلا أنّ الديون الخارجيّة بلغت 157 مليار دولار عام 2004. ويمكن عرض تفاصيل دقيقة للوضع الاجتماعي للمزارعين المكسيكيين بعد توقيع الـNAFTA: فقد قُضي على زراعة الذرة التي تحتلّ حوالى 60% من الأراضي الزراعية المكسيكية، لمصلحة زراعة الذرة في الولايات المتحدة. وأدى هذا الأمر إلى «تدمير» معيشة ما يقارب ثلاثة ملايين مكسيكي، أي 8% من الشعب المكسيكي، الذي أصبح 50% منه، بحسب الدراسات الأخيرة، تحت معدّل الفقر.
وبالعودة إلى لبنان، فإنّ الوضع الاقتصادي يزداد في التراجع مع توقيع الاتفاقيات، وخاصة تلك التي تنص على شراكة مع الدول الأوروبية والتي تتخطّى مفهوم التعاون الاقتصادي، فتتطرّق إلى عناوين برّاقة كإقامة السلام في المنطقة وتقريب العلاقات مع الغرب الأوروبي، إضافةً إلى دعم العلاقات الثقافية وحقوق الإنسان والديموقراطية. وتبدو الصناعات الصغيرة والزراعة بشكل عام، أكثر القطاعات تضرراً من جراء هذه الاتفاقيات كما يؤكد أنطوان الحويّك، رئيس جمعية المزارعين، حين يتحدث عن تأثير اتفاقية الشراكة العربية التي وقّع عليها لبنان، معتبراً أنها تتضمن نقاط ضعف عديدة، منها: فتحها للأسواق أمام السلع من دون أن يجري التفاوض على كل سلعة، عدم وجود مكتب دائم لتلقّي الشكاوى، غياب آلية لموضوع الدعم. ويشير حويّك إلى أنّ لبنان هو الأكثر تضرراً من جراء هذه الأمور لكونه الأكثر ليبرالية بين الدول العربية. وعن الشراكة الأوروبية، يلفت حويّك إلى أنّ الدولة لم تبذل أي جهد لإدخال لبنان إلى الأسواق الأوروبية، ويضيف «الوقت يمرّ وبعد خمس سنوات ستخفّض الرسوم أكثر ولم نستفد من هذا الأمر بعد».
أما رئيس جمعية الصناعيين، فادي عبود، فقد اعتبر أنّ الفروقات بين دول المجموعة العربية التي تتمثل في بنية هذه الاقتصاديات الوطنية يستحيل أن تكوّن عنصر توحيد اقتصادي بين هذه البلدان. وشدّد بدوره على مسألة عدم دعم الدولة لإنتاجها، لافتاً إلى أنّ النظام الليبرالي في لبنان لا يطبّق إلا على الصناعة.
في ظل الضرر الواضح الذي يطال قطاعي الزراعة والصناعة في لبنان والدول النامية التي توقع على اتفاقيات التجارة الحرة، يجدر بالجهات السياسية اللبنانية، موالية كانت أو معارضة، الالتفات إلى هذين القطاعين وتقديم طروحات بديلة تنقذ ما بقي منهما في لبنان.