جوان فرشخ بجالي
يعدّ قُصَيْر عمرا، الواقع في البادية الأردنية، أحد المواقع النادرة التي تُظهر الرسوم الجدارية الإسلامية، ولا سيما منها تلك التي تصوّر البشر. فجدران ذلك القصير ـــ المنتجع زُيّنت بزخارف ورسوم لحيوانات وأخرى لبشر، البعض منها إباحي. ماذا تخفي هذه الرسوم من تاريخ الفنّ الإسلامي؟ هذا ما يجيب عنه كتاب العالم الأردني غازي بيشة «رسومات قصير عمرا، حمام أموي في البادية الأردنية»

قصير عمرا مبنى صغير قابع في صحراء الأردن على بعد 60 كلم من العاصمة عمان. قصير يتميّز بهندسته البسيطة: بناء مستطيل مبني بالحجر الجيري الأصفر ومسقوف بأقبية... لا شيء آخر يميزه من الخارج. فلا حدائق له ولا حتى أسوار. لذا لا يهمّ المارّ به زيارة هذا الموقع الذي يخفي أسراره وأهميته داخل جدرانه. فصالاته مقسّمة الى قاعة عرش وصالة استقبال وحمام مبني بحسب التقليد الروماني ومقسم الى ثلاث غرف: باردة ودافئة وحارة يدخلها ويخرج منها المستحمّ بحسب هذا التدرّج.
ولكن كل هذا التصميم الهندسي البسيط يبقى عادياً الى أن تطأ قدما الزائر داخل القصير. حينئذ سيعيش تجربة جديدة. فالسقف والجدران مزيّنة بالرسوم الجدارية والزخارف. هنا مشهد صيد وهناك صور رياضيين ولاعبي أكروبات يمارسون نشاطاتهم، وهناك أيضاً رسوم لراقصات وعازفي عود، وعلى بعد بضعة أمتار منهم يقف النجارون والحدادون في صور للحياة الريفية... وما يمكنه أن يستوقف الزائر هو رسوم الحمام التي تصوّر نساء شبه عاريات يلهون بالماء.
ليس إتقان الرسوم هو ما يثير الدهشة، بل واقع أن القصر مبنيّ لأمير مسلم. فقد شيّد القصير خلال الفترة الأموية (661 ـــــ 750 م). وكما هو معروف، فإن الديانة الإسلامية تحرّم رسم البشر والحيوان، فكيف إذاً يفسر وجود هذه الجداريات؟
هذا ما يجيب عنه العالم الأردني غازي بيشة في كتاب «رسومات قصير عمرا، حمام أموي في البادية الأردنية» الذي صدر حديثاً في بيروت عن المركز الفرنسي للدراسات في الشرق الأوسط. يشرح بيشة أن هناك نظرية نشأت في القرن العشرين تتعلق بالـ«حاجة» إلى بناء القصور للأمراء الأمويين في البادية، إذ هي بمثابة منتجعات يلجأ إليها الأمراء هرباً من صخب المدينة التي لم يعتادوا الحياة فيها. فهم، وقبل بدء عصر الخلافة، كانوا يعيشون في الصحراء حيث الجو الهادئ. لذا فقد بنيت لهم قصور عدة في البادية الأردنية، وقد زُيّنت تلك القصور بالزخارف والفسيفساءأما عن رسوم قصير عمرا التي تظهر أشكالاً بشرية، فيقول بيشة، وبعد قراءة تفصيلية لكامل المنشورات المتعلقة بهذه الرسوم، والتي قورنت بالمصادر الأدبية العربية، وبحسب نص للحكيم محمد بن زكريا الرازي (933م)، «إنه كان هناك تأثير قوي للحكمة اليونانية ــــــ أي التقاليد الفنية البيزنطية التي كانت سائدة في المنطقة قبل نشأة الإسلام ـــــ في زخرفة الحمام واختيار موضوعاتها». فبحسب الرازي «الحمامات ذات المواصفات العالية كانت تزخرف بمناظر ومواضيع متشابهة، والغرض من الرسوم كان إدخال البهجة الى النفس والنشاط الى البدن أو إنعاش أرواح البدن الثلاثة: الحيوانية والنفسية والطبيعية». وهذا ما يسمح لبيشة بالقول إن «رسومات قصير عمرا لم تكن فريدة من نوعها ولا مقتصرة على هذا البناء... بل كانت موضوعات عامة». أما عن الأهمية الفنية لهذه الرسوم فهي تختصر بأنها ليست على درجة عالية من الإتقان، ولكن أهميتها تكمن في أنها شاهد على مرحلة زمنية معينة: حينما كان الفن الإسلامي لا يزال في مرحلة النشوء والتكوين.
الرسوم منذ اكتشافها
لقد أثارت رسوم قصير عمرا منذ «اكتشافها» في القرن التاسع عشر على يد الرحالة التشيكي الوي ميوزيل موجة من الاهتمام العلمي بهذا المبنى التاريخي الفريد من نوعه. ولكن مع الأسف لم يكن الاهتمام العلمي كافياً للمحافظة على الموقع الذي كان يستعمله الرعاة والبدو أثناء تخييمهم في البادية في فصل الربيع. فكانوا يضرمون النار داخل قاعاته، ما أدى الى تغطية جدارياته بالدخان الأسود، بالإضافة الى تسرّب مياه الأمطار إلى الداخل عبر التصدعات ومحو الألوان... ومن ثم بدأ الزوار بالتوافد على القصير وأصر البعض منهم على «تخليد» اسمه فحفره على الجداريات... وقد أسفر كل هذا عن «تدهور» حالة الرسوم، ما شكل حافزاً لدائرة الآثار العامة في الأردن خلال سبعينيات القرن الماضي للمحافظة على القصير وترميم
الرسوم.
بدأت أول ورشة عمل في الموقع وكان فريقها إسباني الجنسية وبقي الموقع في دائرة الاهتمام العالمي. ففي سنة 1985، قررت منظمة اليونسكو إدراج قصير عمرا في لائحة التراث العالمي في محاولة للمحافظة عليه ونظراً إلى فرادة الرسوم التي تزين جدرانه. وهذا ما شكل حافزاً آخر لإتمام دراسة علمية تفصيلية عن الرسوم، فقرر المركز الفرنسي للدراسات الأثرية في الشرق الأوسط إتمام الدراسة وكلف كلود فيبر ـــــ غيغ بإتمامها. فبدأ هذا الأخير عمله في الموقع، وعمل خلال أكثر من ست سنوات على إتمام تصوير مفصّل للجداريات، تلاه رفعٌ هندسي وتقني لها بحسب قياساتها، ومن ثم رفعَ كل الكتابات التي تغطيها واستطاع حتى أن يظهر «التدخل» في الرسم الأصلي الذي قام به الفريق الإسباني الذي رمم الرسوم. وبعد عملية التوثيق الدقيقة هذه، بدأ فيبر ـــــ غيغ بإنجاز رسوم تصويرية للجداريات التي يغطيها الدخان الأسود أو المتضررة كثيراً بحيث لا يمكن رؤيتها كاملة. لذا الكتاب الذي أصدره قسم الآثار في المركز الفرنسي للشرق الأوسط IFPO هو بمثابة دراسة علمية مفصلة لقصير عمرا، وهو أول مرجع علمي شامل وكامل عن الموقع، وخصوصاً أن مؤلفيْه كلود فيبر ــــ غيغ (للرسوم) وغازي بيشة (الدراسة التاريخية) هما من المختصين المخضرمين في هذا الموضوع. وما يميز هذا الكتاب أيضاً ويعطيه دعماً قوياً أنه يرضي نوعين من القرّاء: أهل الاختصاص ومحبي الآثار. وهنا تكمن «قدرة» الكاتبين. فالكتب التي تتعلق بمواضيع الآثار غالباً ما تكون موجّهة لنوع من القرّاء. فإن كانت لأهل الاختصاص، فهي تشبه إذاً السر الخفي لمحبي التاريخ. فعلم الآثار يغوص في أعماق التفاصيل وزواياها فتضيع الصورة الكبرى للقارئ. ولكن، في هذا الكتاب، تأتي الصور والرسوم والبيانات الهندسية تفصيلية بامتياز، في حين أن النص العلمي (المترجم الى العربية والفرنسية والإنكليزية) «سهل» وفي متناول الجميع، إذ إن الكاتبين يكمل عمل أحدهما عمل الآخر.
الكتاب معروض في مختلف مكتبات (بيروت ودمشق وعمان) قسم الآثار في المركز الفرنسي الشرق الأوسط، ويمكن الحصول عليه في الإنترنت عبر الموقع:www.ifporient.org



الأمويون في التاريخ

أسس معاوية بن أبي سفيان الخلافة الأموية سنة 661 م.، واتخذ الشام عاصمة لها. ولم يدم حكم الأمويين أكثر من مئة وعشر سنوات، وما يميزه هو الإرث الهندسي الذي خلفوه: فالخليفة عبد الملك شيّد جامع الأقصى في القدس في حين أن ابنه الوليد بن عبد الملك شيّد مسجد الأمويين في دمشق، والمسجد النبوي في المدينة المنورة الذي يعتبر ثاني أهم مقام ديني في الإسلام إذ يضمّ ضريح النبي محمد.