إبراهيم الأمين
لن يطول الوقت حتى يقال أكثر مما يقال حتى الآن عن حوار باريس. في فريق المعارضة من يشكو قلة التنسيق منذ زمن طويل، لكن الأمر يبقى عند هذه الحدود عندما تقترب الأمور من لحظة القرار. قوة التنسيق التي كانت قوى 14 آذار تتميّز بها تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة، ما جعل المعلّم الرئيسي في الولايات المتحدة مضطراً إلى أن يكرّر بين الوقت والآخر سلّم التعليمات حتى لا يجتهد الأقطاب أكثر من اللازم، وهذا ما فعلته كوندوليزا رايس أمس بحديثها عن رئيس من 14 آذار دون أن تقول هذه الكلمة مباشرة، لكنها قالت بصورة عامة ما يشرحه مساعدوها مفصّلين هنا، من أن ما قاله النائب وليد جنبلاط هو الأساسي: نقبل أن يشاركنا الآخرون في اختيار الرئيس المقبل، لكننا نمنحهم حق الاختيار من صفوفنا لا من صف آخر.
وإذ حرص العماد ميشال عون وفريقه على التكتم على تفاصيل ما دار بينه وبين النائب سعد الحريري في العاصمة الفرنسية، فإن ما نقله موفدوه أمس إلى عدد من القيادات في المعارضة تضمّن الآتي:
أوّلاً: نفي من العماد عون أن يكون قد طرح على الحريري موضوع تأليف حكومة أقطاب برئاسته، وأنه تحادث معه في الملف الحكومي كجزء من النقاش العام لكن دون التوصل إلى تفاهم حاسم يلزم الطرفين، علماً بأن عون يملك في هذا المجال الهامش الذي لا يملكه الحريري المضطر إلى مراجعة حلفائه من مسيحيي 14 آذار.
ثانياً: نفي من العماد عون أن يكون قد تطرق في البحث الى ملف الأسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية، ما يعني برأي بقية الأقطاب أن لا جديد يعطي دفعاً لما يجري في مكان آخر من مفاوضات عسيرة في شأن هذه النقطة.
ثالثاً: تأكيد من عون أنه أبلغ إلى الحريري أن علاج سلاح المقاومة موصوف في ورقة التفاهم الموقعة بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وأن هناك إمكاناً لتطوير البحث من خلال النقاش العام في استراتيجية دفاعية لدولة قوية وقادرة.
رابعاً: أن الحريري أبدى تفهمه لحاجة المسيحيين الى قانون انتحابي عادل يساوي بين جميع اللبنانيين ويتيح لهم تمثيلاً صحيحاً كما هي الحال بالنسبة إلى بقية الطوائف.
خامساً: أن التوافق على المحكمة الدولية هو نفسه التوافق الذي تم في جلسات الحوار الوطني، وأن عون كرر موقفه الذي يقول إنه ليس معارضاً لقيام هذه المحكمة والتعجيل في حسم الأمر منعاً للتسييس.
سادساً: أن النقاش العام في العلاقات اللبنانية مع الخارج، وفي الموقف من القرارات الدولية يظل ضمن تفاهمات تأخذ بالاعتبار مصالح لبنان ولا تجعله في موقع معادٍ للآخرين، وبما يسمح له بمنع التدخلات الخارجية على اختلافها، وأن التفاهم على آلية حوار داخلي في ما خص سلاح المقاومة يلغي الذعر من القرار 1559، كما أن التطبيق الفعلي للقرار 1701 من شأنه تهدئة الجميع، علماً بأن تسوية العلاقات مع سوريا من شأنها فتح الباب أمام إزالة أسباب مرتبطة بخروق القرار المذكور وتُنسب إلى سوريا.
وبينما تعرّض موفدو عون إلى قوى المعارضة لأسئلة تفصيلية في شأن بعض النقاط، فإن في المعارضة من حاول الاستيضاح عمّا إذا كان النقاش هذا يعني محاولة التفاهم على بيان وزاري لحكومة جديدة، فكان الجواب أنه بيان رئاسي يخص الرئيس المقبل. أما الآخرون ومن بينهم الرئيس نبيه بري فقد وجدوا في ما سمعوه كلاماً لا يضيف جديداً إلى أصل الموضوع العالق، الذي يتوقف برأيه عند ملف الأسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية. ومع ذلك، فإن بري مثله مثل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يبدو مرحبّاً بهذا النوع من التواصل، وهو صاحب الرأي القائل إن من واجب المعارضة مساعدة النائب سعد الحريري على الخروج من حلقة الضغوط المفتوحة من جانب الثنائي وليد جنبلاط وسمير جعجع، التي تريد إبقاء كل الأمور في دائرة التوتر، ولا سيما أن في قوى المعارضة من ينظر بعين مختلفة الى قيادات أخرى من فريق 14 آذار مثل الرئيس أمين الجميل ومحمد الصفدي وآخرين.
لكن هل تجاوز الحريري وعون فعلاً ملف الرئاسة الأولى؟
الواضح أن ما نقل من كلام عن الاجتماعات لا يتضمن إشارة مباشرة الى هذا الأمر. لكن كل النقاش الذي دار كان يتعلق بطبيعة العمل السياسي وفقاً للانتخابات الرئاسية. ومع أن البعض من فريق 14 آذار قال قبل اللقاء إن المطلوب من عون سحب ترشّحه أوّلاً، فإن الأخير ينفي أن يكون الحريري قد طلب منه ذلك أو أنه أثار هذه النقطة بجانبها الخلافي، علماً بأن عون كما الحريري سمعا جيداً كلام جنبلاط وجعجع ومرشحين من 14 آذار، وهو الكلام الذي يقول إن تفويض الحريري مشروط بالتفاوض على أحد المرشحين: نسيب لحود أو بطرس حرب.
لكن عون بدا مهتماً بتركيب السؤال عن ترشّحه بطريقة مختلفة. فبدل أن يبدأ الكلام بسؤال مباشر له عن استعداده للتخلي عن ترشحّه لأجل رئيس توافقي، هجم عون باتجاه مهمات الرئيس المقبل، أو ما يعرف بالبرنامج السياسي، وهو الذي يتضمن كل النقاط الواردة سابقاً، حتى إذا حصل توافق أو تطابق في بعضها، أراد عون إشعار الحريري بأن المشكلة لا تعود مركّزة على اسم المرشح. وما دام التوافق يحصل بين عون والمعارضة من جهة، وفريق 14 آذار من جهة ثانية على هذه البنود السياسية، فإن بمقدوره ردّ السؤال بطريقة أخرى من نوع: ما دمنا قد اتفقنا على البرنامج، فلماذا تعارضون ترشّحي وأنا المستعد لالتزام هذا البرنامج، وأملك تمثيلاً مسيحياً قوياً وعلاقات أقوى مع قوى المعارضة، وبالتالي، أستطيع التعهد بتنفيذ هذا البرنامج. لكنّ عون يعرف أن الحريري ليس في الموقع الشخصي ولا الزمني الذي يتيح له الإجابة عن هذا السؤال، فلا هو سيعلن رفضاً قاطعاً من النوع الذي يعطل الحوار القائم، ولا هو بقادر على الموافقة دون العودة الى حلفائه الذين لا يريدون رؤية عون في لبنان، لا في القصر الجمهوري فقط.
لذلك، فإن توقف الحوار يرتبط أساساً بأن الجانبين وصلا الى المكان الذي يحتاجان فيه الى التشاور مع الآخرين، ولو أن الحريري يملك تفويضاً على حوار مفتوح مهما كانت نتائجه، لكان عون قادراً على انتزاع تفويض من المعارضة للمضي بالحوار حتى النهاية، لكنّ عون يعرف أن عواطف النائب الحريري ومحاولته التمايز عن الآخرين وسعيه الى توافق ولو بطريقة خاصة، لا تعني أنه يقدر على الشروع في اتفاق دون مشاركة الآخرين، وهو الذي يعرف أن في بيروت من ينتظره عند الكوع، والأمر لا يقتصر على جنبلاط وجعجع بل ينضم إليهما الرئيس فؤاد السنيورة وآخرون من القوى التي تشعر بأن توافقاً من هذا النوع من شأنه إقفال الباب أمام لعبة الارتزاق السياسي والأمني والإعلامي وما إليه من العطاءات ذات اللون الأخضر.