جان عزيز
لم تفهم الشخصية السياسية حقيقة الرسائل التي حملها إليه سفير دولة غربية كبرى. فسياقها غريب، ومضمونها أكثر غرابة. ودلالاتها عرضة لشتى التفسيرات والتحليلات والتأويلات. والأهم أن الموضوع لا يمكن إلاّ أن يكون موضع عناية واهتمام. فالسفير يمثّل إدارة مؤيدة علناً لقوى الموالاة. ومسؤولوها متهمون بالوقوف خلف الكثير من مواقف الحكومة القائمة وحساباتها وتطلعاتها. فيما الشخصية المقصودة أقرب بكثير إلى المعارضة، ومعروفة بعلاقة وثيقة برئيس الجمهورية الذي يقاطعه السفير نفسه، ويلقي على مقاطعته هذه مسؤولية «التمديد» لمهماته في بيروت، بعد انتهاء مدة عمله وتعيين خلفه وتجميد عملية التبادل، حتى لا يضطر السلف إلى توديع لحود، ولا يضطر الخلف إلى تقديم أوراق اعتماده إليه.
لكل هذه الأسباب، ولأن بين الرجلين لقاءات سابقة حول مواضيع دقيقة، كان الاجتماع بين السفير ومضيفه لافتاً، حتى جاءت الرسائل التي تضمنته، لتزيده غرابة ومفارقة.
الرسالة الأولى التي بدا أن الدبلوماسي يحملها، كانت إلى لحود مباشرة. سأل السفير عن نيات رئيس الجمهورية في حال شعور المنصب في 24 الجاري. وسأل عن الخيارات التي يفكر فيها. قبل أن يعلن لمحاوره ما مفاده أن إدارة بلاده حريصة على أن يعرف لحود كيف ستتعامل معه. فإذا أخلى قصر بعبدا عند نهاية ولايته، فهي ستتعامل معه بإيجابية لافتة، وستفرش له السجاد الأحمر في عاصمتها. أما إذا لم يفعل فهي لن تتوانى عن محاربته بشتى الوسائل المتاحة لها.
الرسالة الواضحة، لم يتأخر لحود في الرد عليها إعلامياً. لكن السؤال ظل في أذهان المراقبين، لماذا الإصرار على تكرار الرسالة نفسها؟ هل المقصود استدراج لحود إلى تصرف مطابق مع مضمونها، أو إلى أداء معاكس له؟ أم أن الهدف من هذا التكرار هو تصحيح رسالة سابقة معاكسة تماماً، كانت قد نقلت عن السفير نفسه، وتبحث في صيغة ما لبقاء لحود في بعبدا في مقابل ضمان بقاء السنيورة في السرايا؟
ولم تكن الرسالة الثانية بعيدة عن السياق الرئاسي نفسه، إذ فاجأ السفير الغربي مضيفه بعرض مفصّل لما وصفه بالبحث المسهب الذي كان قد أجراه على حد قوله، مع مرجع روحي كبير، في الأسماء المرشحة للاستحقاق الرئاسي. وراح الدبلوماسي ينقل إلى محاوره عملية «تشطيب» منهجي لعدد كبير من السياسيين، مؤكداً أنها منسوبة إلى كلام المرجع الروحي المعني مباشرة بالاستحقاق.
بدأ السفير بقائد الجيش، فقال إن المرجع المقصود يعرف أن وصول العماد ميشال سليمان إلى الرئاسة يقتضي تعديلاً للدستور، وهو ما يرفضه عدد من القوى السياسية، ويعلن السنيورة مناوأته القاطعة له. وتابع السفير ناقلاً كلام المرجع الروحي لمحاوره، وبما أن المطلوب هو تسهيل الأمور لا تعقيدها، يبدو أن انتخاب قائد الجيش للرئاسة متعذّر.
بعدها أكمل الدبلوماسي جرّدته، ودائماً بنسبها إلى المرجع الذي التقاه: جان عبيد دونه فيتوات كثيرة، فارس بويز يقولون إنه أمضى أعواماً كافية في القصر، رياض سلامة، الأفضل أن يظل في مركزه، ميشال إده لم أسمع أن أحداً يريده... حتى لم يبقِ صاحب السعادة اسماً فوق الغربال.
بعد هذا الزلزال الرئاسي، انتقل السفير إلى رسالته الثالثة، وكانت مقتضبة تلك: بين إدارتنا وبين حزب الله مشكلة كبيرة، لا يمكن أن تحل في المدى المنظور كله. ونحن في هذا السياق نرى أن ما يحكم موقفنا من الحزب وتعاطينا مع معضلته، هو القرارات الدولية ذات الصلة، الصادرة عن مجلس الأمن، والمتمتعة بتأييد الحكومة اللبنانية الكامل. لكننا نعرف أنه لا يمكن أن نقف كل يوم ونرفع هذه القرارات في وجه الحزب، كأنها ستطبّق فوراً.
وقبل التبصّر في مغازي هذه الرسالة وتفاصيلها وألغازها، انتقل الدبلوماسي إلى رسالته الرابعة: تطبيع العلاقات بين إدارتنا وبين دمشق أمر غير منظور الآن، لكن لا يمكن أحداً أن ينفي إمكان حصوله في المستقبل.
أحجية أخرى تركها السفير من دون تفاصيل ولا حتى «كلام صورة»، لينشغل عنها بنوع من «الامتحان الرئاسي» لمحاوره، للتعمية ربما، أو لمجرد عادة باتت مفروضة على عمله ولقاءاته اللبنانية في الفترة الأخيرة.
هكذا استكمل مسلسل الغرائب المنقولة مباشرة بعد اللقاء، إلى أكثر من جهة وطرف. وهو ما توقف عنده كثيرون، وخصوصاً لجهة تباينه أو تناقضه مع مواقف أخرى من المسائل نفسها، للدبلوماسي ذاته ولإدارته الراعية للوضع اللبناني ومحيطه.
ماذا يعني المسلسل المذكور؟ البعض شكك في صحته كلياً، معتبراً أن في نقله عدم دقة، أو فهماً غير صحيح. والبعض الآخر رأى أنه نوع من بالونات الاختبار المرمية في كل الاتجاهات، لرصد ردود الفعل مع مداهمة الوقت الحاصل، وعدم اتضاح الأمور والخيارات. والبعض الأخير رأى أن هذا الكلام هو إشارة جدية إلى مسألة يراهن عليها كثيرون، ومفادها أن كلمة سر ستصدر عن إدارة السفير المقصود، في اللحظة الأخيرة من سباق الاستحقاق الرئاسي المأزوم، لإجراء تسوية ما، لم تتّضح معالمها، لا بل يجري البحث حالياً في حدودها وضوابطها. وهو ما يقتضي جسّ نبض الجميع وجوجلة المتناقضات، حتى ما يبدو منها الأكثر غرابة.