صور ــ آمال خليل
المـــوت يسابـــق أعمـــال التنظيـــف ولا أحـــد يضمــن «نهايـة سعيدة» لرحلة العـــلاج

ختام كتاب «الثمن الذي دفعناه» للكاتب الأميركي فرانكلين لامب، يطفح بالتحدي الخجول الذي تحاول رشا زيون (17 عاماً) في الصورة إظهاره وهي تشد ساقها اليسرى الاصطناعية فيما يقرر لامب إعطاءها هويتها الجديدة وهي عبارة لبوب ديلان تقول «كم طريق يمشيها الإنسان ويتعثر فيها متظاهراً أنه لا يرى! والجواب أنه يطير في الهواء».
لكن للوهلة الأولى تظن أن ذاك الأميركي قد أثقل كتفي الفتاة بتحدٍّ أكبر منها بعد زيارته لها في بيت أسرتها المتواضع، لكن رشا لديها أشياء ثمينة تخفيها خلف رسوبها المتكرر في المدرسة وبساطتها وعتبها على كل ما حولها منذ إصابتها بانفجار لعبة في 4 كانون الثاني الفائت حملها والدها مع أكوام الصعتر التي يقطفها من البراري ليبيعها. انفجار نسف ساقها وشظّى جسدها وحوّلها إلى كومة خوف ويأس لا تفارق غرفتها إلا للخضوع لجلسات العلاج الفيزيائي والنفسي لاحقاً في الجمعية اللبنانية لرعاية المعوقين في الصرفند.
تسرّبت رشا من المدرسة التي لم ترُقها يوماً واعتزلت رفيقاتها ونزهاتها في «البرية» وتوقفت عن الرسم وأشغال الخياطة التي تهواها. وبصحبة طرفها الاصطناعي، زارت إيطاليا لمتابعة تأهيلها الفيزيائي والنفسي كي تعود «رشا مختلفة» إلى معركة. ربما حينذاك ستعتاد عدم الاكتراث لنظرات الشفقة في عيون الناس. وفيما خصّ والدها، فقد تعهدت بألا تحمّله في وجهها وسرّها «ذنب ساقها المبتورة لأنه حمل معه القنبلة العنقودية إلى البيت». لكن الأهم أنها بدأت بالخضوع لدورات تدريبية مهنية لاكتساب مهارات جديدة وتطوير قدراتها الذاتية لتمتلك فرصة عمل عوضاً عن الشهادة التعليمية الأكاديمية التي لم تنلها.
مشاريع ضحايا
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن معظم المصابين بانفجار القنابل العنقودية والقذائف غير المنفجرة سقطوا في الأشهر الخمسة الأولى التي تلت عدوان تموز، إذ أصيب 208 أشخاص حتى 13 كانون الثاني الفائت. ومن بين الضحايا 88 في المئة من الرعاة والعمال والمزارعين الذكور الراشدين آخرهم كان الراعي الشهيد عبد الله محمد فوعاني (40 عاماً) من بلدة كونين. وقتل 7 وأصيب 71 شخصاً دون الثامنة عشرة آخرهم الطفل الشهيد علي قدوح (6 أعوام) من بلدة السلطانية.
أما اللاحقون القاطنون في الـ300 بلدة الملوثة، فإن في انتظارهم مليون ونصف احتمال للإصابة أو الموت بعدد القنابل العنقودية المنتشرة حتى الآن في الجنوب، علماً بأن 40 في المئة منها غير قابلة للانفجار لأنها قنابل أميركية منتهية الصلاحية إذ صُنّعت خلال حرب فيتنام. وممّا يزيد من خطرها الأمطار التي تنقلها من مكان محدد ومسيّج إلى آخر يعتقد أنه نظيف، إضافة إلى أن لائحة الأولويات في المواسم الزراعية التي يتحرك على أساسها الجيش اللبناني، لم تأذن بعد بدور الأحراج والوديان التي لم يُكشف حتى الآن عمّا فيها.
تينكيمي غيلبرت مدير مركز التنسيق لعمليات نزع الألغام في جنوب لبنان أعلن «أن مساحة الأراضي التي تنتشر فيها القنابل العنقودية هي 32 مليون متر مكعب، وارتفعت خلال عام ونصف عام إلى 38,3 مليون متر مربع، وأن هذا العدد مرشح للازدياد».
وكان غيلبرت يتحدث الأسبوع الماضي في ندوة عقدت في بيروت بشأن مكافحة الألغام والقنابل العنقودية، وقد أضاف «ننتظر من إسرائيل أن تزودنا خريطة أو معلومات عن هذه القنابل، وحتى الآن لم يصل أي شيء».
ولفت إلى أنه خلال العام الحالي جرى العمل على تنظيف بعض الأراضي من القنابل العنقودية و«بحلول آخر هذا العام سنعمل على تنظيف 30 مليون متر مربع من الأراضي ويبقى لدينا 8 ملايين متر مربع لتنظيفها، وأنه من دون تقديم إسرائيل المعلومات عن أماكن هذه القنابل العنقودية فسيكون العمل صعباً جداً».
لكن «الخطر المخضرم» يسكن في الطبقات الجيولوجية في تراب بعض قرى الجنوب التي تحمل ذخائر غير منفجرة تعود إلى زمن الاعتداءات الإسرائيلية قبل عام 2000، وخصوصاً عدوانيْ تموز ونيسان. ومع عاملي الزمن والأمطار انغرزت هذه الذخائر بعمق أكبر في الأرض لأمتار عدة فلا تلحظها معدات الفرق العاملة بعد العدوان الأخير. واللافت أن البعض عمّر منازل ويعيش فوقها منذ سنوات في بلدة زبقين على سبيل المثال، علماً بأن الكتيبة البلجيكية هي وحدها التي تملك هذه المعدات، لكنها لا تتحرك إلا بطلب من قيادة الجيش اللبناني.
ما بعد الإصابة
بعد إخضاعهم للعلاج الأوّلي في المستشفى (85 في المئة منه على نفقة وزارة الصحة)، يتولى الجيش اللبناني رسمياً مهمة دعم الضحايا عبر قسم مساعدة الضحايا التابع للمكتب اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام والمسؤول عن اللجنة الوطنية لمساعدة ضحايا الألغام، إضافة إلى إحصاء الإصابات الناجمة من مخلفات الاعتداءات الإسرائيلية، جغرافياً واجتماعياً وعمرياً لتوزيع المصابين بموجبه على الجمعيات الاثنتي عشرة المعنية (سبع منها مسؤولة ميدانياً عن 30 بلدة ملوثة بالقنابل العنقودية لناحية المصابين وحملات التوعية، وخمس مموّلة)، إذ تتولى كل منها المصابين الموجودين في نطاقها الجغرافي، علماً بأن الجمعيات إما لا تتواصل مع جميع المصابين وإما لا تفيهم حاجاتهم الكاملة بحسب إمكانياتها المتوافرة. وبالإضافة إلى حملات التوعية التي قام بها في جميع القرى المستهدفة الـ300 في الجنوب والبقاع الغربي ومراقبة وتنسيق عمل الجمعيات ورعايتهم للمصابين، يتولى قسم مساعدة الضحايا توزيع الهبات والمساعدات العينية الدولية عليها.
أما الجمعيات فإن تقديماتها متنوعة تتدرج صعوداً من العلاج الفيزيائي إلى الدعم النفسي والاجتماعي وأحياناً تقديم قروض صغيرة للمصابين الذين يعانون إعاقات. ويتجه معظمها في العلاج إلى إجراء الفحص الشامل الطبي الأولي للمصاب لوضع الخطة التأهيلية له. وبعد العلاج الفيزيائي الحركي والكهربائي والمائي، تبدأ جلسات العلاج النفسي والإرشاد الاجتماعي بالتنسيق مع أسرة المصاب ومحيطه بعد التغيير الجذري الذي طرأ على حياته، وصولاً إلى مساعدة المصاب العامل في الحصول على فرصة عمل جديدة تتناسب مع وضعه الجسدي الجديد أو اكتساب مهارة مهنية لكسب العيش. فهل تنتهي رحلة العلاج نهاية سعيدة؟ تشير الوقائع إلى عكس ذلك، لأن تأهيل الضحية هو ثمرة تعاون بين الجمعيات والمجتمع.
وعمّا إذا كانت الجهود الأهلية تفي بكل ما هو مطلوب لاحتضان الضحايا، تقرّ مديرة الجمعية اللبنانية لرعاية المعوقين في الصرفند مها شومان جباعي بأن ما تقوم به الجمعيات «لا يملأ فراغ الدولة التي تتحمل مؤسساتها المعنية المسؤولية الأولى عن وضع دراسة إحصائية شاملة تليها خطة دعم طبية واقتصادية واجتماعية، لأن الجمعيات الأهلية التي تتلقى معظم تمويلها من الهيئات الدولية لا يمكنها استيعاب كل المصابين وحاجاتهم، فتبرز ضرورة التعاون بين القطاعين الرسمي والمدني أقلّه لناحية توفير الأطراف الاصطناعية التي تحتاج إلى تغيير كل سنتين، وفرص العمل والوظائف»، علماً بأن أياً من الوزارات المعنية لديها إحصاء أو معلومات وافية عن ضحايا الألغام والقنابل العنقودية وظروفهم.