نقولا ناصيف
أتاحت الزيارة المفاجئة التي قام بها موفدان رئاسيان فرنسيان رفيعان هما كلود غيان وجان دافيد ليفيت لدمشق (الأحد 4 تشرين الثاني) واجتماعهما بالرئيس السوري بشار الأسد طرح علامات استفهام عن توقيتها ما دامت لم تضف الكثير إلى ما نقله إلى المسؤولين السوريين الموفد الخاص للخارجية الفرنسية السفير جان كلود كوسران ووزير الخارجية برنار كوشنير. وبدا من زيارة الأمين العام للرئاسة الفرنسية والمستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي أن ثمة ما كُلّفا نقله مباشرة إلى الأسد شكلاً ومضموناً من أجل أن يحملا الجواب إلى قمة الرئيسين الفرنسي نيكولا ساركوزي والأميركي جورج بوش اليوم. هذا على الأقل ما تبوح به جهات دبلوماسية وثيقة الصلة بالزيارة، وتدرج مهمة الزائرين الأخيرين في المعطيات الآتية:
1 ـــــ لم يتغيّر مضمون الرسالة التي حملها المسؤولون الفرنسيون الأربعة إلى دمشق. إلا أن باريس، إذ رغبت في رفع مستوى التخاطب الرسمي والعلني بينها وبين دمشق، أرادت أن تصل الرسالة إلى الرئيس السوري مباشرة. وهو أمر تحبّذه القيادة السورية بدورها لأن في وسعها الاجتهاد في قراءة الرسالة على نحو مختلف وتفسير تطور التخاطب الرسمي وتبريره. وتالياً فإن الأسباب التي حالت حتى الآن دون أن يجتمع كوسران بالأسد، هي نفسها التي أوجبت أن يستقبل الأخير غيان وليفيت ويصغي إلى ما حملاه.
وتشير الجهات الدبلوماسية ذاتها إلى أن كوسران لم يشأ في زيارته الأخيرة لدمشق طلب موعد للقاء الرئيس السوري وإبلاغه رسالة حكومته إدراكاً منه أن الأسد لن يوافق على استقباله في النطاق المحدود لمهمته وصفته التمثيلية. تالياً تكتسب أهمية اجتماع غيان وليفيت ـــــ وهما أرفع مسؤولين فرنسيين يلتقيان الأسد منذ ثلاث سنوات ـــــ في أن كلّاً من الطرفين استخلص من الآخر النتائج السياسية التي يريدها. وفي واقع الأمر لا يعني ذلك إلا اعترافاً متبادلاً من الطرفين بأنهما المعنيان الرئيسيان بالاستحقاق الرئاسي اللبناني نظراً إلى ارتباط مصالحهما الحيوية المباشرة به، وأن أحدهما لا يستطيع تجاهل الآخر حيال تأثيره فيه، وحاجتهما إلى حوار جدي حياله يتجاوز توجيه الرسائل والتهديدات عن بعد.
2 ـــــ لاحظت باريس من ردود الفعل السلبية لوزير الخارجية السوري وليد المعلم على اجتماعيه بكوسران (الأحد 28 تشرين الأول) وكوشنير (الجمعة 2 تشرين الثاني)، وإصراره على استخدام عبارات عامة لا توحي تلقفه الرسالة الفرنسية كما ينبغي، أن دمشق لا تزال تنظر إلى الموقف الفرنسي بلامبالاة وتقلّل من أهميته وتصلبه. فليس الحديث عن التوافق هو ما تطلبه باريس من دمشق، إنما إظهار جدية في دفع انتخابات الرئاسة اللبنانية في مجرى إجرائها بنجاح وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بلا تدخّل خارجي. شعرت باريس بأن دمشق مصرّة على إحاطة موقفها من الاستحقاق الرئاسي بغموض والتباس، تارة بتمييز دورها عن دور حلفائها اللبنانيين، وطوراً بالقول إنها لا تتدخّل فيه وترغب في توافق اللبنانيين على استحقاقهم. تبعاً لذلك ارتأى ساركوزي إرسال معاونيه إلى العاصمة السورية كي يحصل من نظيره السوري مباشرة على الإجابة التي يريدها. وبحسب الجهات الدبلوماسية المعنية، فإن الموفدين الفرنسيين ذهبا إلى رأس السلطة في سوريا وإلى صاحب القرار في توجيه علاقة سوريا بلبنان من أجل أن ينتزعا منه ما لم يقله حتى الآن المعلم، ولا نائب الرئيس فاروق الشرع.
3 ـــــ خلافاً لما عبّر عنه المعلم حيال العلاقات السورية ـــــ الفرنسية، فإن مهمة غيان وليفيت في دمشق رمت أيضاً إلى تأكيد باريس أن أولوية الاستحقاق الرئاسي اللبناني بالنسبة إليها تتقدّم تطبيع العلاقات الفرنسية ـــــ السورية. والواضح من المهمة الفرنسية الثالثة أنها أرادت تصويب ردّ الفعل السوري الذي رغب في عدم رهن تطوّر علاقات البلدين بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، أو على الأقل إجراء مناقشة متزامنة للملفين توصّلاً إلى اتفاق واحد حيالهما. فكان أن أكد الموفدان الرئاسيان الفرنسيان للأسد أن معاودة العلاقات الفرنسية ـــــ السورية تمر بإعادة الاستقرار إلى لبنان وتوطيد هذا الاستقرار ووقف التدخّل في شؤونه.
بذلك رغبت باريس في وضع حدّ للجدل والتأويلات المتشعّبة التي اقترنت بمغازي لقاءات كوسران وكوشنير وغيان وليفيت بالمسؤولين السوريين. وبحسب الجهات الدبلوماسية المعنية، فإن الزائرين الأخيرين أبلغا إلى دمشق أن حكومتهما تنتظر أن ترى قبل 24 تشرين الثاني وفي المهلة الدستورية، رئيساً جديداً للبنان يختاره اللبنانيون بإرادتهم دون تدخّل خارجي، وأنها ستأخذ في الاعتبار أن أي فراغ دستوري في الرئاسة اللبنانية أو تطورات سلبية على صعيد استقرار الوضع اللبناني برمته يمكن أن ينشأ عن تعذّر انتخاب رئيس جديد، سيفضي إلى نتائج مماثلة بسلبيتها، سواء على علاقة باريس بدمشق، أو علاقة المجتمع الدولي بالأخيرة.
إلامَ يفضي، إذن، الحوار الفرنسي ـــــ السوري؟
أياً تكن المواقف المتشددة التي ينتظر أن تصدر عن القمة الأميركية ـــــ الفرنسية في الساعات المقبلة حيال انتخابات الرئاسة اللبنانية، والإصرار على إجرائها تفادياً للفراغ الدستوري، وكذلك تحميل سوريا مسؤولية أي فوضى أو زعزعة للاستقرار الداخلي في لبنان، فإن هذه تتصرّف وكأنها أقل استعجالاً من واشنطن وباريس لاتخاذ الموقف الذي تطلبانه حيال هذا الاستحقاق الرئاسي وإجرائه في موعده الدستوري. وهو فحوى اللغز المحيّر الذي تصطدم به الدبلوماسية الفرنسية في مهماتها المتلاحقة حيال سوريا. بل يكمن السؤال الذي تطرحه الجهات الدبلوماسية الوثيقة الصلة بزيارة غيان وليفيت في معرفة كيف تريد دمشق إمرار الاستحقاق الرئاسي اللبناني. فحتى الساعة، علناً على الأقل، لم يوفّق كوشنير ولا الدبلوماسيون الفرنسيون الثلاثة في الحصول على موقف سوري صريح يسمّي المرشح الذي تؤيده دمشق للرئاسة اللبنانية أو تميل إلى انتخابه توطئة لإعادة بناء العلاقات اللبنانية ـــــ السورية في المرحلة المقبلة، ولا موقفها من الرئيس التوافقي وحدود دورها في انتخاب هذا الرئيس عبر حلفائها الأقوياء من غير تقويض دور قوى 14 آذار وخياراتها، ولا كذلك ـــــ وخصوصاً ـــــ استكشاف موقف دمشق من الفراغ الدستوري في لبنان، وهل تريده بالفعل؟