ليال حداد
يخشى نصف اللبنانيين من عمليات التبرّع بالأعضاء، مع ما لهذه الخدمة من فوائد إنسانية لأسباب متعددة. وهذا الخوف هو واحد من معوقات انتشار هذه الظاهرة في لبنان، التي تساهم في مضاعفتها مشكلات كثيرة يعانيها هذا القطاع في لبنان، أبرزها المنطق التنافسي والتجاري الذي يطغى على عمل الجمعيات المعنية

يقف رالف أمام المرآة. ينظر إلى عينيه، يتحسسهما جيداً. يعيد النظر مجدداً إليهما ويبدأ حديثه: «أنا عم شوف... هيدا الشي بيكفي». يلاحظ أن حديثه غير مفهوم، فيشرح تفاصيل حياته وتجربته الصعبة مع النظر: «كنت في الرابعة من عمري حين تعرضت لحادث سير مع أمي، وأثّرت الحروق التي أصابتني في نظري، وخصوصاً عيني اليمنى، وبدأت أفقد النظر تدريجاً». يشرد في مكان بعيد محاولاً استذكار مرحلة تبدو بعيدة جداً من حياته: «حين بلغت السادسة عشرة أصبحت شبه أعمى، لا قدرة لي على النظر إلا في بعض الحالات النادرة».
يتوقف عن الكلام لينظر مجدداً الى عينيه الجديدتين والسليمتين قبل أن يتابع: «الأطباء في لبنان اعتبروا وضعي صعباً جداً وتوقعوا أن تؤثر العين اليمنى في اليسرى فأصبح كفيفاً». لكنه وجد الحل من خلال إخضاعه لزرع في عينه اليمنى، ويروي ببهجة تفاصيل سفره إلى فرنسا لإجراء العملية، ثم يغصّ عندما يتذكر الألم الذي رافقها والمصاعب التي واجهته، ولا سيما المادية منها، منهياً حديثه: «هلق الصعوبات لم تعد مهمة، العملية نجحت ورجعت عيني لوضعها القديم، ما فيي قول إلا الحمد لله».
هذا وضع رالف. شاب في العشرين من عمره، وهبه أحدهم قرنيّته فتمكن من استعادة النظر استعادة كاملة.
التجربة الثانية هي تجربة مصطفى معروف. رجل ستيني كاد يفقد حياته بسبب كبده الذي ضعف عمله، وأصبحت حياته مرهونة بوهب أحدهم كبداً يلائم جسده. انتظر مصطفى سنتين، ذاق خلالهما كل العذابات الممكنة الى أن تمكن أخيراً من الحصول على كبد أنقذ حياته. لا يبدو الحديث عن هذه المرحلة الصعبة من حياة مصطفى سهلاً، فهو لا يفهم الأمور الطبية، كما يقول، ولا يريد أن يستعيد مرحلة لم يصدق أنها مرت بسلام: «أنا معيل العائلة، لديّ زوجة وخمس بنات، ولو توفيت لكانت عائلتي ماتت جوعاً». تبدو اللهجة «الدرامية» طاغية على حديثه فتقاطعه زوجته: «الله يخلّيك بصحتك، هيدا الحكي ما إلو لزوم رجعت طبيعي وبكامل صحتك». لا يهتم مصطفى كثيراً لتعليق زوجته ويكمل حديثه: «كانت الصعوبة في إيجاد كبد يلائم جسدي وحين وجدوه أُخضعت للعملية ونجحت». يسكت لأكثر من خمس دقائق، محاولاً أن يجد ما يقوله لينهي به حديثه فلا يجد إلا عبارة «وهب الأعضاء أنقذ حياتي، الميت ليس بحاجة إلى أعضائه، لذلك على كل عائلة أن تهب أعضاء الشخص المتوفى علّه بذلك ينقذ حياة شخص آخر».
وهب الأعضاء كان الحل إذاً. ومصطفى ورالف ليسا إلا نموذجين لحالات كثيرة تعافت، فيما ينتظر الآلاف من يهبهم عضواً يشفيهم من مرض مميت. انتظار قد يطول، وخصوصاً إذا عرفنا أن نصف اللبنانيين تقريباً يخافون من عمليات الوهب. ويكشف إحصاء أجرته «الهيئة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة في لبنان» في أيار 2006 أسباب هذا الخوف، إذ يظهر أن 53.3% من اللبنانيين يوافقون على وهب أعضائهم بعد الموت، فيما يرفض ذلك 46.7%. وتتنوع أسباب الرفض بين الخوف من التشويه أو من ردة فعل الأهل أو الألم، إلا أن السبب الأساسي هو الخوف من وجهة نظر الأديان. غير أن عودة بسيطة إلى المؤتمر الطبي الأول عن وهب الأعضاء وزرعها، تبدّد كلّ هذه المخاوف. فالأديان على اختلافها توافق على عملية الوهب والزرع شرط ألا يكون الهدف تجارياً، وأن يكون المتوفّى وافق على وهب أعضائه قبل وفاته.
يذكر أن لبنان شهد أول عملية زرع أعضاء في عام 1972 في مستشفى البربير، وبعد أحد عشر عاماً صدر المرسوم الاشتراعي رقم 109 وتلاه عام 1984 مرسوم آخر يحمل الرقم 1442 اللذان ينظمان عمليات وهب الأعضاء وزرعها، إضافة الى تحديد المراكز المؤهلة لهذه العمليات.
وافتتح أول مركز لزرع الأعضاء في لبنان عام 1985 في مستشفى رزق، وتتالت من بعده المراكز المشابهة في المستشفيات الأخرى: عام 1992 في مستشفى أوتيل ديو، عام 1997 في مستشفى الجامعة الأميركية، عام 1998 في مستشفى القديس جاورجيوس، عام 2003 في مستشفى حمود في صيدا، وعام 2004 في المستشفى الإسلامي في طرابلس.
وتمت أول عملية زرع كلية من شخص متوفى عام 1990 في مستشفى رزق، وأول عملية زرع قلب كانت في مستشفى حمود عام 1998، وأول عملية زرع كبد كانت عام 1997 في مستشفى أوتيل ديو.
لكن ماذا عن الوضع الحالي لهذا القطاع اليوم؟

«تبرعوا بأعضائكم ولا تخافوا»

يحمرّ وجه السيدة فريدة يونان المنسقة العامة للهيئة الوطنية لوهب الأعضاء غضباً، حين تتحدث عن المشاكل التي تواجه اللجنة في لبنان. فتبدأ بتعدادها بتسلسل واضح: «أولاً، إن الجمعيات الأهلية المفترض أنها قانونية، تعمل بمنطق تنافسي ولا تنسق معنا وهذا أمر خطير جداً». وتعطي مثلاً لتوضح فكرتها: «منذ فترة وصلتنا أكثر من خمس شكاوى من مواطنين لبنانيين تبرعوا بالمال لإحدى الجمعيات الأهلية، على أساس أن يحصلوا بالمقابل على «سي.دي» عن أهمية وهب الأعضاء، إلا أن المفاجأة كانت حصولهم على «سي.دي» يعلّمهم الرقص الشرقي والغناء». ترتسم ابتسامة ساخرة على وجهها، وتأخذ نفساً عميقاً تكمل من بعده تسلسل أفكارها لتصبّ بعضاً من غضبها على وسائل الإعلام التي تنشر معلومات غير صحيحة عن عملية الوهب والزرع حيث يفقد الأشخاص الثقة بالجهات اللبنانية ويفضّلون القيام بعمليات زرع في دول أخرى. أما مشكلة التمويل، الأساسية بالنسبة إلى اللجنة، تجد حلاً موقتاً لها: «نقوم ببيع الشوكولا في الأعياد، أو نجمع المال من بعضنا أو من متبرعين محسنين».
تتوقف عن الكلام لتجيب على هاتفها. أحدهم يريد زرع عضو ما. تستفسره عن التفاصيل وعن الواهب. لا تعجبها المعلومات التي يقدّمها لها: «نحنا ما منزرع هيك، اسأل طبيبك هو يشرح لك». تنهي المكالمة وتعود الى الحديث: «على العالم أن يفهموا أساسيات وهب الأعضاء والزرع كي يتبدد الخوف لديهم. مثلاً التبرّع بالأنسجة يتم بعد وفاة الشخص، فيما التبرع بالأعضاء يتم بعد الوفاة الدماغية فقط أي يكون الدماغ توقف عن العمل ولكن الدورة الدموية لا تزال تعمل، إذ لا يستطيع شخص ميت كلياً أن يتبرع بأعضائه». تعود الى حاسوبها لتؤكد كلامها بصور وبيانات تشرح وتفصّل ما قالته. وتنتهي بالتشديد على ضرورة التبرع بالأعضاء من دون خوف: «ما في شي بخوّف تبرعوا بأعضائكم».

جمعيات تزرع قرنيات من دون فحصها

لا تختلف آراء منى الشعار المسؤولة في بنك العيون التابع لـ«الهيئة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء»، عن رأي زميلتها، ما يعكس تنسيقاً كبيراً بينهما. إلا أن الشعّار تدخل أثناء حديثها في تفاصيل ملموسة أكثر، فتتحدث عن صعوبة العمل في بلد مثل لبنان: «الجمعيات الأهلية غير التابعة للهيئة الوطنية تقوم بعمليات مريعة». تتردّد في الحديث قليلاً لتجد الصيغة الألطف لشرح الوضع: «هذه الجمعيات تقوم بزرع قرنيات من دون فحصها ومن دون معرفة ما إذا كانت ملائمة لعين الشخص الموهوب». وتشرح الخطوات التي قامت بها الهيئة الوطنية للتعاون وتسهيل عمل هذه الجمعيات، من خلال طلبها إرسال كل القرنيات لفحصها مجاناً في بنك العيون ولكن «لا حياة لمن تنادي». تدخل في تفاصيل عملية الزرع: عند وفاة أيّ شخص وفي حال موافقة الأهل على وهب قرنيّتي المتوفى، يذهب فريق من بنك العيون ويستأصل القرنيتين من دون أي تشويه: «حتى في حال وهب العينين كاملتين لا يكون هناك أي تشويه إذ إن الطبيب يقوم بالتجميل الضروري، فيضع قطعتين مشابهتين للعينين ويغمضهما فيبقى شكل الميت طبيعياً».
لتوضح كلامها عملياً، تجول برفقتنا في أرجاء بنك العيون وتشرح لنا كل مرحلة من مراحل العمل مع الإشارة الى الآلات المستعملة لحفظ القرنيات لمدة أقصاها أسبوعان ولنقلها من المستشفى إلى بنك العيون، وطبعاً الآلات الخاصة بفحص القرنية لمعرفة ما إذا كانت صالحة أم لا.
من ناحية أخرى، يجدر التذكير بمدة صلاحية كل عضو من الأعضاء الموهوبة: فالكبد مثلاً يجب زرعه بعد ست عشرة ساعة من تاريخ الوفاة حداً أقصى، والأمر نفسه مع البنكرياس. أما القلب فيجب زرعه خلال أربع ساعات فقط، فيما تتحمل الأنسجة كالجلد والعظم والعضلات خمس سنوات.



كيف تتبرّع بأعضائك؟

قد يظن البعض أن عملية وهب الأعضاء تتطلّب معاملات طويلة، وأنّه على من يرغب في التبرع بأعضائه بعد وفاته أن يقوم بخطوات صعبة، إلا أن واقع الأمر أسهل بكثير: يقصد الشخص المهتم بالتبرع بأعضائه بنك العيون أو اللجنة الوطنية لوهب الأعضاء وزرعها ويحصل على بطاقة واستمارة تبرّع. يملأ الخانات الفارغة التي تحتوي على ما يلي: الاسم الكامل مع اسم الأب والأم، إضافة الى تاريخ الولادة ومكانها، الجنس، والوضع العائلي والعلمي والمهني، وأخيراً أسماء كل الأعضاء الممكن التبرع بها حيث يشير الشخص إلى الأعضاء التي يرغب في وهبها. وقبل الإشارة الى الأعضاء الممكن التبرع بها عبارة: «أصرح وأنا بكامل قواي العقلية وبملء إرادتي أني أهب بعد وفاتي». ويجب على الشخص الذي يملأ هذه الاستمارة والبطاقة أن يعيدها الى الهيئة الوطنية أو بنك العيون بعد أن يكون ملأها أمام شاهدين من عائلته.
الأمر سهل إذاً. ولكن هل الجميع مستعد لأن يقوم بهذه الخطوة؟
«أكيد أقبل أن أتبرع بأعضائي، فعندما أموت ما حاجتي إليها؟ أفضّل أن أفيد إنساناً بموتي على أن تتحول كل أعضائي الى تراب»، رأي فرانسوا المتني يشبه رأي كثيرين من اللبنانيين الذين ما أن يفهموا حقيقة وهب الأعضاء حتى تتوضح الصورة في رأسهم وتتبدد المخاوف المتعلقة به، كما هي حال غريتا بصيبص التي كانت تخاف من الفكرة، ولكن بعد شرح قصير عن أساسيات الموضوع أجابت بعفوية: «ليك شو سهلة، إيه بتبرع بأعضائي ليش لأ». غير أن للبعض رأيه الخاص وغير القابل للجدل في الموضوع. فتعتبر السيدة ميرفت عيتاني أنها لن تتبرع بأعضائها يوماً: «كيف سأقابل ربي بشكل مشوّه؟ وإنني أخاف من عمليات كهذه، من قال إن الميّت لا يشعر بألم؟».
وبين هذين الرأيين رأي آخر شائع بين العديد من اللبنانيين: «أنا أقبل بأن أتبرع بأعضائي بعد الموت ولكن لا أحب عند وفاة أحد أقربائي أو عائلتي أن أشهد عملية استئصال لأعضائه»، أما سبب رأي مروان زيدان هو أنه في حال وفاته لن يشهد استئصال أعضائه، أما عند وفاة أحد أقربائه فسيراه مع نقص في أعضائه!