نقولا ناصيف
لا يمثّل انتظار نتائج القمة الأميركية ـــــ الفرنسية بين الرئيسين جورج بوش ونيكولا ساركوزي من انتخابات الرئاسة اللبنانية إلا مؤشراً إلى حجم التدويل الذي بلغه الاستحقاق، وارتباطه الوثيق بالنزاعات الإقليمية والدولية الناشبة على الأرض اللبنانية، أكثر منه شأناً لبنانياً. وأقرّ ذلك علناً لا الدور السوري وفاعليته في الاستحقاق الرئاسي اللبناني فحسب، بل أيضاً الحاجة إلى التفاوض مع دمشق، أياً يكن حجم التفاوض ومستواه ونبرة رسائله، من أجل إمرار الاستحقاق، الأمر الذي أبقى اللبنانيين، جميعاً بلا استثناء، على هامشه أسرى شروطهم المتبادلة. ومنذ اجتماعات اسطنبول في 2 تشرين الثاني، تضاعفت وتيرة التحرّك الأميركي والفرنسي حيال لبنان وسوريا، وإن بتقويم مختلف بين الأميركيين والفرنسيين، ولن تكون زيارة الوفد الفرنسي الرفيع المستوى إلى دمشق الأحد الفائت آخر مطاف الدينامية الدولية.
على أن ما خلصت إليه سلسلة التحركات هذه، توجزها مصادر دبلوماسية واسعة الاطلاع ومعنية بالتحركات تلك في ما يأتي:
1 ــــ موافقة أميركية ضمنية على تولي فرنسا التحدّث مباشرة مع سوريا لحضّها على التعاون الجدّي لإنجاز انتخابات الرئاسة بلا تدخّل خارجي. لكن حدود التفويض الذي أعطته واشنطن تتوقف عند خطين أحمرين، يقتضي ألّا يتجاوزهما استخدام التفويض والحوار، هما عدم الخوض في المحكمة الدولية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا في الأزمة الإقليمية وخطة السلام في المنطقة. والأمران بالغا الأهمية بالنسبة إلى دمشق، المتحفظة على المحكمة الدولية، والحذرة من أهداف انعقاد المؤتمر الدولي التي لم تُدعَ إليه بعد ولا تريد في المقابل، على بعد أشهر من القمة العربية المرتقبة على أراضيها، أن تكون مستبعدة عنه.
ورغم الوعود التي قطعها الموفدون الفرنسيون لدمشق في اجتماعات الأسبوعين المنصرمين، ومنها تعهّد قاطع بانفتاح قريب للاتحاد الأوروبي عليها من خلال سلسلة اجتماعات ولقاءات للاتحاد ذات اهتمامات متوسطية ستفيد منها سوريا على مستويات شتى إذا ساعدت في إجراء الاستحقاق الرئاسي بتدخّلها المباشر لدى حلفائها ـــــ تبحث الأخيرة عن استفادة من نوع آخر، هو مسار علاقاتها بواشنطن.
2 ـــــ تراهن باريس على إقناع واشنطن بدعم انتخاب رئيس «توافقي» للبنان يجنّب الموالاة والمعارضة مزيداً من الانقسام، ولبنان فوضى قد لا يكون في وسع أيّ من الطرفين في ما بعد السيطرة عليها. وإذ يبدو الموقف الفرنسي متقدّماً في حضّ الأفرقاء اللبنانيين على التوافق حول انتخاب رئيس جديد، فإن الموقف الأميركي يترجّح بين حدّين لا يتزحزح عنهما: أولهما وحدة قوى 14 آذار التي تمثل لواشنطن قوة المواجهة الجدّية لمنع عودة النفوذ السوري إلى لبنان، وثانيهما انتخاب رئيس للجمهورية من هذا الفريق للتيقن من إمساكه بكل مفاصل الحكم في لبنان وعزل حزب الله عن الاضطلاع بأي دور فعلي، ومنعه من أن يكون عقبة قادرة على عرقلة إدارة نظام الحكم في لبنان. بل إن واشنطن تفضّل اللعبة المعاكسة، وهي التوافق وفق تعريفها هي، لا التعريف المتداول عربياً وفرنسياً وأوروبياً، أي توافق الموالاة والمعارضة على رئيس للجمهورية من قوى 14 آذار ليس إلا.
ويتقاطع ما تشير إليه المصادر الدبلوماسية نفسها مع الانطباعات الشائعة عن المهمة المنوطة بالسفير الأميركي جيفري فيلتمان لدى قوى 14 آذار، مشجعاً إياها على المضي في تصلبها ومؤيداً انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً. واستناداً إلى أوساط الغالبية، فإن فيلتمان كتب إلى حكومته أن انتخاب رئيس بنصاب النصف الزائد واحداً هو عمل دستوري سبق أن خبرته استحقاقات رئاسية لبنانية سابقة، مبرّراً تشجيع هذا الخيار، واستشهد بانتخابَي الرئيسين الياس سركيس عام 1976 وبشير الجميل عام 1982، تعزيزاً لشهادته، الأمر الذي فسّر الموقف الذي أطلقه سفير واشنطن في الأمم المتحدة زلماي خليل زاد بقوله، على هامش مناقشة مجلس الأمن القرار 1559 الإثنين الماضي، إن انتخاب رئيس بمثل هذا النصاب يسمح به الدستور اللبناني.
وفي واقع الحال، إن ستة من الرؤساء اللبنانيين الـ11 المتعاقبين منذ الاستقلال انتخبوا من الدورة الثانية للاقتراع (هم: فؤاد شهاب، الياس سركيس، بشير الجميل، رينه معوّض والياس الهراوي، باستثناء سليمان فرنجية الذي انتخب من الدورة الثالثة)، ولكن بعدما أجريت دورة اقتراع أولى في ظل نصاب الثلثين لالتئام مجلس النواب. ونصاب الثلثين هذا رافق اقتراعَي الدورتين الأولى والثانية، وأجريتا في ظله إلى أن انتخب الرئيس من الدورة الثانية. والواضح أن واشنطن، على وفرة مواقفها المؤيدة لسيادة لبنان واستقلاله، لا تعزل دعمها له عن مواجهتها سوريا على أراضيه مواجهة حملت دبلوماسياً أوروبياً بارزاً في بيروت على القول، في معرض إبرازه حدّة النزاع الأميركي ـــــ السوري، إن الأميركيين والسوريين «يتقاتلون في لبنان حتى آخر لبناني».
3 ـ رغم الغموض الذي لا يزال يحوط بنتائج اجتماع الرئيس السوري بشار الأسد بالأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان والمستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي جان دافيد ليفيت الأحد الفائت، فإن المعلومات المتداولة في أوساط رسمية لبنانية تتحدّث عن «شيء ما» حمّله الأسد إلى ليفيت الذي رافق الرئيس نيكولا ساركوزي إلى القمة الأميركية ـــــ الفرنسية، ويصلح ليكون أساساً لتسوية تسهّل إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية، وتُخرج سوريا من عزلتها الدولية. ويبدو أن الانطباع الإيجابي الذي تلا اجتماع دمشق نُقِل ليل الثلاثاء إلى مرجع رسمي لبناني في مكالمة هاتفية أجراها معه دبلوماسي بارز، ولكن من دون الخوض في التفاصيل. إلا أن المكالمة الهاتفية أبرزت مقداراً متقدّماً من التفاؤل حيال انتخاب رئيس للجمهورية قبل 24 تشرين الثاني تبعاً لآلية الاتفاق على رئيس توافقي يرضى به الأفرقاء جميعاً، ومن غير أن يكون مرشح أي منهم.
ومع أن دمشق تحبّذ باستمرار أن يحمل الفرنسيون إليها اسم الرئيس اللبناني كي تحدّد موقفها منه، تجنّبت في اجتماع الأحد طرح أي اسم للرئيس بغية تبديد الانطباع برغبتها في التدخّل المباشر في الاستحقاق الرئاسي. لكن جانباً من المعلومات القليلة المتداولة في أوساط لبنانية رسمية تحدّث عن أن الأسد حدّد لزائريه الفرنسيين المواصفات التي يراها في الرئيس اللبناني المقبل، والمرتبطة حصراً بالعلاقات اللبنانية ـــــ السورية، كي يقول لباريس إنه معنيّ بالرئاسة اللبنانية من باب تسهيل وصول رئيس يكون جسراً موثوقاً به إلى إعادة بناء العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. وهو أمر لاقاه إليه غيان وليفيت بتأكيد تفهّمهما انتخاب رئيس يصوّب العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، لا انتخاب رئيس يعبّر عن تدخّل سوري مباشر في الاستحقاق.