جان عزيز
كشفت أوساط دبلوماسية أوروبية أن زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي كلود غييان إلى بيروت، مرجّحة يوم الجمعة غداً، لتكون في الفترة الفاصلة بين قمة واشنطن التي جمعت بوش وساركوزي، وقمة شرم الشيخ بين مبارك وعبد الله، وبين جلسة ساحة النجمة يوم الاثنين، المرشّحة للتأجيل إلى الأربعاء المقبل.
وتشرح الأوساط نفسها أن زيارة الأمين العام لقصر الإليزيه، وأحد أبرز مساعدي الرئيس الفرنسي، إلى العاصمة اللبنانية، تحمل الكثير من الخلفيات المفترض الإضاءة عليها، من أجل فهم أهدافها والغرض منها. فغييان الآتي من عالم الشرطة الفرنسية والتنسيق الأمني والمخابراتي، كان أحد أبرز المسؤولين عن هذا الملف بين باريس ودمشق، في فترة علاقاتهما الذهبية يوم كان رفيق الحريري صلة الوصل بين قصر المهاجرين والإليزيه. وهذا ما سمح لغييان بنسج علاقات وطيدة مع عدد من أركان النظام السوري. أمّا المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي، جان دافيد ليفيت، الذي رافق غييان إلى دمشق قبل أيام، فهو أحد أبرز صانعي القرار 1559، يوم كان سفيراً لبلاده في واشنطن، ومحور التنسيق بين رايس وأبرامز من جهة، وبين برنار إيمييه في الكي دورسيه، وموريس غوردو مونتانيو، رجل شيراك القوي في الإليزيه، الذي خلفه ليفيت مع ساركوزي، في المنصب نفسه.
وتشرح الأوساط الدبلوماسية الغربية، أن ترافق كل من غييان وليفيت في زيارة سوريا الأخيرة، يشي بخارطة الطريق التي وضعتها باريس لمبادرتها الراهنة، والتي قد تكون الأخيرة تجاه الوضع اللبناني المأزوم.
وتكشف الأوساط المذكورة أن ما قصده ساركوزي من زيارة مساعديه هذين إلى الرئيس السوري بشار الأسد، هو توجيه رسالة واضحة مفادها الآتي: أعطني ما يمكنني أن أبيعه في واشنطن في اليومين المقبلين، وفي المقابل خذ مني عودة إلى علاقاتنا الثنائية والأوروبية الممتازة. ورمزية الشخصيتين الموفدتين واضحة لإفهام هذه الرسالة، بمعنى أعطِ ليفيت ما يفهمه بتجربته الأميركية الواسعة، وخذ ما يفهمه غييان من تعاون بين بلدينا، كما اعتدتم معه في السابق.
ماذا يمكن أن تعطي دمشق لباريس ممّا يمكن تسويقه في واشنطن؟ تعتقد الأوساط الدبلوماسية أن المقصود ملفان أساسيان: العراق وفلسطين، وبينهما يظل عربون الثقة والتعاون لبنان واستحقاقه الرئاسي.
وتتحفّظ الأوساط نفسها عن تحليل ما يمكن سوريا أن تبحث في تقديمه حيال الوضعين المأزقيين في بغداد وغزة، لكنها تكشف في المقابل أن الموضوع اللبناني خضع لمقاربة واضحة وصريحة في محادثات الموفدين الفرنسيين في دمشق. قال غييان وليفيت للأسد: نحن ندرك تأثيركم في بيروت على ثلاثة أصعدة. فأنتم قادرون على زعزعة الوضع الأمني أولاً. وأنت قادرون على التأثير في العملية السياسية عبر أصدقائكم وحلفائكم ثانياً. وأنتم متّهمون بالسعي إلى إعادة الفوضى إلى لبنان، ولو من باب الثأر لخروجكم منه عقب أحداث آذار ونيسان 2005. وتابع الموفدان الفرنسيان الإعراب عن القرار الفرنسي والأوروبي الواضح والحاسم، بأنه إذا عمدت دمشق إلى تظهير أي من الأبعاد الثلاثة، فهي ستواجه بمزيد من الضغوط الدولية وتشديد سياسة العزل. أما إذا تعاونت، فلها في المقابل فتح كل الأبواب في وجهها، كما عبّرت عن ذلك مراراً الإدارة الباريسية الجديدة.
وتكشف الأوساط الدبلوماسية نفسها أن غييان وليفيت فوجئا إزاء مقاربتهما الصريحة تلك، بقراءة فائقة الإيجابية من جانب الأسد. إذ أعرب لهما الرئيس السوري عن اقتناعه أولاً بعدم وجود أي مصلحة سورية في حصول فوضى لبنانية، من زاوية تخوّفه من تمدّدها إلى الداخل السوري. وأضاف الأسد اقتناعه ونيته الجديّة بضرورة تصحيح علاقاته بأوروبا والغرب، وإدراكه لأهمية المفتاح اللبناني في هذا المجال. إضافة إلى يقينه من أن أي تدهور لبنانيّ سيستغل لاتهام سوريا بالمسؤولية عنه، وسينعكس بالتالي مزيداً من الأذى لبلاده.
وشرح الأسد لمحاوريه، أن الحل الأمثل لكل هذه المتاهة من المحاذير، يكمن في الإتيان برئيس توافقي للبنان. ذلك أن رئيساً كهذا، يتمتع بتأييد أصدقاء دمشق في بيروت، لن يكون معادياً لسوريا، وسيعمل على تطبيع العلاقات بين البلدين.
غادر الموفدان دمشق متفائلين، لا بل مغتبطين، كما تؤكد الأوساط الدبلوماسية. هل القراءة السورية للمسألة اللبنانية كافية لتكوين هذا الانطباع؟ طبعاً لا. لكن الأوساط نفسها تتكتّم عن الجوانب الأخرى، التي يفترض أن تكوّن مادة التفاؤل الباريسي، الذي حمله سيد الإليزيه إلى واشنطن. فالواضح أن ليفيت زوّد رئيسه بما يمكن بيعه للأميركيين، وفي المقابل ينتظر غييان أن يعود ساركوزي بما يمكن تسويقه والاتفاق عليه مع السوريين. والحركتان ضروريتان لتكريس صورة الرئيس الفرنسي، كوارث لأدوار رجال أميركا في القارة القديمة، وتحديداً كوريث شرعي ومستحق لدورَي جاك شيراك وطوني بلير معاً.
تبقى صيغة الترجمة اللبنانية العملية. وفي هذا المجال تكشف الأوساط الغربية نفسها أن نجاح خارطة الطريق الفرنسية هذه، يفترض أن يصل إلى عودة غييان إلى بيروت غداً الجمعة، حيث ينتظر أن يمرّ سريعاً على السرايا الكبيرة وقريطم، قبل أن يتوقف طويلاً عند المحطة الرئيسية لزيارته المرتقبة، في بكركي. ففي الصرح البطريركي تتوقع الأوساط الدبلوماسية نفسها أن يفلش غييان كل أوراقه الفرنسية والأميركية وأيضاً السعودية والفاتيكانية، ليطلب من البطريرك الماروني اسم مرشح أو أكثر، يزكّيه الجميع، لتمرير القطوع.
في 19 أيلول 1988، جاء ريتشارد مورفي إلى بكركي قائلاً: إمّا مخايل الضاهر وإمّا الفوضى. أمّا غداً فقد يأتي غييان ليقول: إمّا أن تسمّوا أنتم، وإمّا أن تسقطوا في مدار انعدام الوزن.