أنسي الحاج
طاغية

إنْ أصغينا إلى الساسة فكلّ شيء يدعو إلى التقاتل. إن نظرنا إلى نهر الحياة فكلّ شيء يدعو إلى احتقار الساسة.
ليس فَرْزُ الناس طائفيّاً هو وحده ما يُهين، بل فرزهم آذاريّاً. مَن هم هؤلاء الذين يتلاعبون بمصائرنا؟ أيّة عصيّ غليظة ألسنتهم وأيّة جِيَف كلماتُهم؟
أبشع ما في الصورة الإيحاء بأن الناس لا يحتاجون لغير إشارة حتّى يهجموا بعضهم على بعض. والأبشع مواقف الدول وهي تتكلّم عنّا كأنها تُودّعنا. وأبشع الأبشع أن يكون بين الناس مَن هو متأهّب للعودة إلى التقاتل.
يقولون: التفاهم أو الفوضى. ما هذا. بلد وقفتْ أدمغته عند عناوين الجرائد. نصف «زعمائه» يريد «الوصاية» السورية ونصفهم الآخر «الرعاية» الفرنسيّة ـــــ الأميركيّة. الناس في الوسط حَطَب.
والبحث المزعوم جارٍ عن مرشّح «توافقي». ما هذا. التوافق الوحيد بين رؤوس البلاد هو هذا الانقسام.
صرنا في يأس ينادي أيّ شيء.
أيّ شيء يَقْدَح الحيط. يُخلّص البلد من عاجزيه وخائنيه. أيّ شيء.
ولو كان طاغية.
نعم، ولو كان طاغية.



عجز ممحون

استدراك: في اليأس يرفع المرء يديه إلى السماء، كما قد يَنزل بهما تحت تاسع أرض. قد ينتج من ذلك كارثة أو خلاص. أحياناً الكارثة خلاص. في مثل حالنا لا مانع. أهْوَن من سماع الأخبار، من هذا السلّ الأخلاقي، من هذه الهستيريا المزيَّفة، الظاهر منها أوداج منتفخة والباطن تنفيذ أوامر.
قلنا: حتّى دكتاتور. قلناها واستورمناها. ونعود لنقولها على وَرَمها: هذا العجز الممحون في مجتمع يهاجر ويُمزَّق ويُبْتزّ ويجوع، يلزمه بَطَل يوقف التدهور.
بطل موقّت، يضبطها ويَرْحل.
أو لا يرحل، ربّما أَفضل لجيلٍ على الأقلّ.
يريحنا على حساب حريّاتنا؟ سوف نتدبّر، بحَرْبَقتنا المعهودة، أمر هذه الحريّات. وقد نتعلّم في غيابها الموقّت شيئاً من الجديّة. وهناك احتمال أيضاً أن نأخذ من الطاغية كلّ خيره (في الطغيان، لمثل وضعنا المصلوب، خير) ولا يأخذ منّا في المقابل غير ثقالتنا.



لن يطير

يشير أبيكور، في تفسير مفهومه للذّة، إلى «نَبْذ الآراء الخاطئة التي منها أكثر ما يكون ينْتج قلقُ النفوس». أعطت الأبيكوريّة اسمها لنظريات معاكسة لها، اعتقدها الناس، منذ أصولها الأولى، دعوةً للحواس إلى الانتشاء بالمتع، وأرادها منشئها لجماً للغرائز وحدّاً صارماً لكلّ جموح وحاجة من أجل تسكير ما أمكن من نوافذ قد تَدْخل منها العواصف. الاعتدال، حتى التضحية بالشغف. التمتّع عن طريق «المزمزة» عوض الشراهة، و«المزمزة» على مسافة من
الطاولة.
إذا كانت فرملة الشَّغَف مستحسنة من أجل إبقاء المرء في محميّة السطوح دون الغَرَق في أشداق الأهواء المدمّرة، فإنها كذلك لدى طبائع دون طبائع. لدى طبائع مفطورة على الملامسة دون الخوض. لدى نفوس ترتوي بخيالها أكثر ممّا تَشْبع بحواسها. كما في كائنات الطبيعة الأخرى كذلك في شأن الإنسان. العصافير والفراش لا تعيش تحت الماء، ولا الأسماك فوقها. لا يَنْصح الفيلسوف إلّا أمثاله. وقل هذا عن كلّ نصحٍ آخر. لن يعبأ المتطرّف المفرط بتوجيهات أبيكور ولا الحَذِر المعتدل بتحريضات أبي نوّاس أو الماركي دو ساد أو نيتشه. عندما «نتبنّى» فكراً نكون في الواقع كمَن لقي وجهَهُ في المرآة لا كمَن وجد «الحقيقة». الحقيقة هي صدانا لا صوتُ آخر.
هذا التقشّف بدعوى الاستمتاع دون مضاعفات ينطوي على ملامح مازوشيّة. لا يطلب منك الفيلسوف أن توجعه بل أن توجع نفسك. سيّان. الحدود. لا حول ولا قوّة. لا بدّ من الحدود. إن لم تضعها لك الأديان ضعها بنفسك. إن لم تضعها لك الشرائع ضعها أنت بوحي السرور. التَجِمْ.
لن يطير، هذا الكائن المحلِّق.



البحث الدائم

مرّت المسيحيّة في أزمنة حالكة تغلّب فيها رعاعها على عقولها، ودمويّوها على روحيّيها، لكن ما أنقذ المسيحيّة ولا يزال هو ديناميكيّة الجدل الحرّ فيها وحَوْلها وفي العالم الذي تبنّاها غرباً ومَزَجها بتراثه اليوناني والروماني. البحث الدائم، اللاهوتي في البداية، ثم العام، الفلسفي والعلمي والفردي المُطْلَق. وعندما كان البحث يفضي إلى الرفض، شكّاً أو إلحاداً، كان ذلك بدوره شهادة لعظمة هذا التراث الذي لا يضيق بالحريّة حتّى عندما تحطّمه.
الأهمّ هو أنه في ظلّ مدىً لا محدود كهذا من حريّة الفكر (والقول والعمل) يعود الإيمان، بل والغلوّ فيه، ليبدوَا سليمَي العاقبة، لا تأثير دمويّاً لهما ولا حتّى تشنيجيّاً. وحين يقول دوستيوفسكي، مثلاً، إنه حتّى لو ثبت أن المنطق هو في صفّ الحتميّة العلميّة فهو سيظلّ إلى جانب يسوع، لا يرتدي موقفه هذا طابع التعصّب، لأنه يحصل في بيئة يقال تحت قبّتها هذا وعكسه. فضلاً عن أن كلامه ليس إلّا صرخة وجدانٍ يتعاظم ذعرُه من الفراغ كلّما اشتدّ ساعدُ شيطانِ عقله في مجادلته... إنّه لا يتحدّى أحداً بل يُنازل أشباحه.
لقد ورثت المسيحيّة روح الجدل المفتوح مع الله من اليهوديّة، حيث تبلغ المبارزات حدوداً هائلة، رؤيَ فيها الإنسان يغلب الله (يعقوب) أو يصيبه بشعور الذنب (أيّوب). وعندما أضافت أوروبا إلى هذا الروح إرث اليونان والرومان (ومع اليونان مصر الفرعونيّة قبلها وقبل اليهود) تَصَالح العقل والدين وانفتح الدين على الرياح الأربع بإرادته وبدونها.
من مشكلات العالم الإسلامي أنّه لم يغادر بعد وَقْفة الدفاع، مع ما تستتبعه من جمود وانغلاق دون حريّة النقد. لقد عرف الإسلام ظروفاً فكريّة أفضل بكثير قبل أكثر من ألف عام. وفي حين يثابر العالم الآسيوي الهندوسي والبوذي والكونفوشيوسي وسواها على سكونيّته لا يحتفظ العالم الإسلامي بأوضاعه كما كانت قبل خمسين عاماً، مثلاً، بل ينهض منها شادّاً الرحال إلى ما هو أسوأ.
لن نقول ليته بقي على سكونه، إنما نَعْقد أمنيةَ أن لا يظلّ هذا العالم يمنح أعداءه فرصة تحقيق مشاريعهم ضدّه.



تحت الماء

التعمّق مجازفة بالركائز. قد ترى في أعماقك ما يَنْقُضُ إلحادَكَ أو يُسمعك صوتاً بذلتَ المستحيل لتهرب منه.
التعمّق تحديق تحت الماء. لا هواءَ إلهاءٍ هنا، بل مَحْضُ هواءِ الضرورة.
الكائنات المائيّة لا ترى ما يراه الغطّاس الزائر. الكائنات المخلوقة في الأعماق تصبحُ الأعماقُ سطوحَها. الرؤيا لا تراها السمكة بل الغطّاس الزائر.
التعمُّق بَرْق.



انكسار

التظاهر بالانكسار إحدى حِيَل الثأر. أخطر الإرهابيين هو صاحب الماضي العريق في «القناعة». المسكين الراضي. وكما في السياسة كذلك في العلاقة. المستسلم حقّاً، بلا نوايا انتقام، هو واحد من شخصين: إمّا أنّه ما زال دون التجسُّد الكامل، وإمّا أنّه تجاوز حدود البَشَر.
كما تيأس من الإنسان، آمنْ به. من قبيل التضادّ، على الأقلّ. أو الرفق. أو التجربة. آمن ساخراً إن شئت، لا بأس، المهمّ حدود التعايش التي ينطوي عليها هذا الإيمان. حدود تضعها أنت تلقائيّاً لنفسك، فلا تَغْدُر، لا تنقضّ على مَن ترى فيه فريسة أو تحسبه عدوّاً. غالباً ما سيضطر واحدنا، في مجتمعاتنا الضيّقة الصدر، أن يُقلّل من عصبيّته الدينيّة ليقترب من إنسانيّته.
أيّها المقهور لا تكظمْ غيظكَ خوفَ الأقوى ثم تهجم بعد أن تصبح أنت الأقوى. اغضبْ ساعةَ الغضب. صرّف نقمتك وحتّى كفرك، أفْضَلُ من أن تتظاهر بالانكسار وذات ليلٍ تطعنني في ظهري.



«حركات»

... والتظاهر باليأس. هذه من «حركات» الشبّان ومن عادات بعض «المثقّفين»: وضعيّة إغراء تَشدّ متطوّعي الشفقة وبالأكثر متطوّعاتها.
اليائس الحقيقي تعرفه من غياب «حركات» اليأس لديه. بالعكس، قد يبتسم كثيراً. إنه أدرانا بما يحتاج الآخر إليه.
ليست كلّ أنواع التظاهر سخيفة. بعضها، كمظاهر التشكُّل عند المرأة، حيويّ. لا يُعْقَل تصوّر الانخطاف بامرأة «طبيعيّة» صرفة، بلا عناية ولا تبرّج. لا يُعقل تصوّر الشغف بشيء مجرّد من الشكل. الروح ذاتها، إذا أغمضتَ عينيك، ترى لها شكلاً.
النافر هو التظاهر بآلام مَن يتألّم أو أهميّة مَن لا يريد في الأصل أن يعطي نفسه أهميّة. إنها سرقة. السينما تُعزّز فينا هذا الميل.
بين المتظاهر والفعليّ ما بين الأصليّ والتقليد. وحتّى يَسْهل عليك تمييز الأصليّ انظرْ، بين الجموع، إلى مَنْ يشعر بالتقصير حيال الآخرين. إنه هو.