باريس ــ بسّام الطيارةبيروت ــ جوان فرشخ بجالي

«بحر الفينيقيين المتوسط: من صور إلى قرطاجة» هو عنوان المعرض الخاص بالفينيقيين الذي فتح أبوابه هذا الأسبوع في معهد العالم العربي في باريس وسيستمر لغاية 20 نيسان (أبريل) 2008. المعرض يجمع روائع القطع الأثرية من مختلف المستعمرات الفينيقية لتروي قصة حضارة لا تزال غامضة في نواحٍ عديدة

بحّارة ماهرون، تجار محنّكون ومكتشفو الحرف الأبجدي... إنهم الفينيقيون الذين عاشوا على السواحل اللبنانية وساحل شمال سوريا في الألف الأول ق.م وتميزوا عن باقي شعوب المنطقة بشغفهم بالسفر والتجارة وقدرتهم على التأقلم. كانوا يشترون المواد الأولية من مدينة ويصنعونها في ثانية ويبيعونها في ثالثة. أبحروا وبنوا مستوطناتهم في مختلف أنحاء البحر الأبيض المتوسط، شعب حمل ثقافته على متن سفنه وأبحر بها مخلّفاً وراءه آثاراً تكفي للتعرّف إليه، ولكن تبقى حضارته الى حد كبير ما يعرف في علم الآثار بـ«الحضارة الغامضة».
وفي محاولة لفك أسرار هذا الغموض وشرح توسّع هذه الحضارة، شارك سبعون متحفاً من اللوفر في باريس إلى المتحف الوطني في بيروت، مروراً بالمتاحف السورية والإسبانية وإلايطالية والتونسية والألمانية والأميركية والبريطانية... في معرض العالم العربي في باريس وأقرضته (بحسب اتفاقيات المتاحف الدولية) القطع الأثرية الضرورية.
فقد وصل إلى باريس ما يقارب 500 قطعة أثرية فينيقية التي تختلف باختلاف المواقع واستعمالها. فهناك النواويس الحجرية المنحوتة على شكل أشخاص، وهناك التماثيل الصغيرة المصنوعة من الفخار والتي ترمز للآلهة أو للحياة اليومية. وهناك أيضاً العاجيات المزخرفة وشواهد القبور المحفورة التي تحمل كتابات باللغة الفينيقية، وهناك أيضاً الأختام والقطع النقدية المصكوكة بحسب المدن والقطع الزجاجية الملونة. كل هذه التحف الفنية تخبر عن تاريخ الإبحار عند هذا الشعب وتعطي تفاصيل عن الحياة اليومية في مدنه الساحلية، إذ يسعى المعرض، حسب تعريف مقدّميه، «إلى إظهار ملامح الحضارة الفينيقية وتواصلها مع دول محيط البحر الأبيض المتوسط». ويرى الخبراء والقائمون على هذا الحدث «أن الحضارة الفينيقية قدمت إلى العالم جانباً مثيراً من الاكتشافات البدائية التي كان لها الأثر الكبير في التجارة آنذاك مثل الصباغ الأرجواني وصناعات الزجاج المنفوخ. وكان الفينيقيون وراء توسع التجارة في حوض المتوسط وألّفوا رابطة بين مختلف الحضارات القائمة حوله، إضافة إلى إنشاء العديد من المستعمرات على ضفتيه».
ومن أشهر الصناعات اليدوية والحرفية التي يقدم معرض «الفينيقيين» هذا بعضاً من نماذجها قطعٌ مشغولة بالمعادن مثل النحاس والقصدير والفضة وحتى من الذهب. وقد عثر على هذه «القطع التي لا تقدّر بثمن في المستعمرات الفينيقية والمواقع التجارية مثل مدينتي فاماغوستا وأماتوس في قبرص حيث كان الفينيقيون يشيّدون ورش عمل حرفية كما تشهد عليه الآثار. وبالطبع تبقى تجارة مصنوعات خشب الأرز أهم ما كان يصدّره الفينيقيون في هذا المجال، ومن أشهرها في هذا الإطار النواويس الخشبية إلى جانب السفن القوية التي يتعدى طولها ثلاثين متراً وكان لها الدور الأول في انتشارهم».
لكن انتشارهم لا يعود فقط إلى هذ السبب، إذ يذهب البعض أبعد من ذلك معتبرين التوسع التجاري للفينيقيين في المتوسط بمثابة «الدافع الأساسي لتجديد كبير في تطور المجتمعات القديمة. فتجارتهم ساهمت في انتشار الأبجدية حول المتوسط ووصولها إلى اليونان وبعدها إلى العالم الروماني».
وما يميز الأبجدية الفينيقية المؤلفة من 22 حرفاً «صامتاً» ـــــ فهي لم تعرف حروف العلة أو الحركات ـــــ أنها أوجدت رمزاً لصوت معين ينطق به الإنسان. وهذا الرمز أي الحرف هو ما أعطى للبشرية جمعاء الزخم الضروري لتدوين تاريخها تدويناً سريعاً ومبسطاً، ولكن (ولسخرية القدر) لم يخلّف الفينيقيون إلا القليل القليل من النصوص التي تشرح طقوسهم الدينية وحياتهم اليومية. وقد يكون سبب قلّة النصوص تلك أنهم كتبوا على مواد سريعة التآكل (مثل الجلود أو ورق البردي التي يصعب حفظها)، أو أنهم بكل بساطة لم يعتبروا تدوين المعلومات عن ديانتهم وحياتهم أمراً مهماً جديراً بنقشه على الحجر. على كلٍّ، تبقى النتيجة واحدة: الحضارة الفينيقية التي تنقسم بين المدن الأم (أي مدن الساحل اللبناني والسوري) والمستعمرات عبر المتوسط (وخاصة تلك التي كانت تابعة لسلطة مدينة قرطاجة)، لا تزال تعتبر حضارة «غامضة».
ولكن الحفريات الأثرية التي تقوم بها بعثات أثرية في شتى أرجاء المتوسط سلّطت الضوء على نواحٍ كثيرة من حياة تلك الشعوب اليومية. وما يعطي لمعرض العالم العربي أهمية خاصة به لم تعرف حتى اليوم، هو أنه جمع للمرة الأولى منذ «اكتشاف» الحضارة الفينيقية (في القرن التاسع عشر) القطع الأثرية الفريدة المكتشفة في كل المدن الفينيقية. فالزائر يمكنه التعرف في آن واحد على الفن الذي تميزت به مدينة جبيل في لبنان، وأرواد في سوريا وسردينيا في إيطاليا وقرطاجة في تونس... وإذا جولة في أرجاء المعرض تخوّل الزائر أن «يتوه» في أرجاء المتوسط في الألف الأول ق.م. فيتعرف الى إحدى حضاراته التي تركت بصماتها على كل شواطئه.




في التاريخ
ناشرو الأبجدية الأقلّ كتابة


باريس ــ الأخبار
تميّز الفينيقيون، في سياستهم الداخلية، بالاستقلالية. وكانت كل واحدة من المدن الفينيقية من صور وصيدا وجبيل في لبنان وأوغاريت وراس شمرا في سوريا بمثابة «مدينة ـــــ دولة». وكان لكلّ منها ملكها ونظام حكمها، ومستعمراتها عبر البحر... ولكنّ هذا الانقسام «السياسي» لم يكن عائقاً للتواصل بينهم، فهم ينطقون باللغة نفسها، ويعبدون الآلهة نفسها، وتتشابه قطعهم الفنية إلى حدّ كبير، ما يدلّ على أنهم شعب واحد وأبناء حضارة واحدة. شعب أطلق عليه الإغريق اسم «فينيقيين» نسبة إلى لون الأرجوان الذي كانوا يصدّرونه. وتجدر الإشارة إلى أنّ سكان هذه المدن لم يعتمدوا يوماً تسمية الفينيقيين للتعريف بأنفسهم، فهم صوريون، أو صيداويون أو جبيليون...
ومن أهم خصائص حضارتهم هي قلة كتاباتهم. فهم الذين وضعوا الأبجدية ولم يتركوا إلا القليل من الكتابات التي وصلت إلينا لتنير بعضاً من تفاصيل هذه الحضارة، وخصوصاً في ما يتعلق بالحياة اليومية ومراسم الدفن والعبادة. ولا يزال الباحثون لغاية اليوم منكبّين على دراسة الحضارة الفينيقية، فالدراسات التاريخية التي تناولتها غير كاملة ومستندة إلى بعض الكتابات المكتشفة. والجزء الأكبر من هذه المعرفة «القليلة» عن الفينيقيين مبنيٌّ على الكتابات اليونانية والرومانية التي وصلت إلينا وكانت تصف الفينيقيين بأنهم «برابرة» غير مأمون جانبهم، يحاولون السيطرة على مواقع ومستعمرات لتجارتهم. ويمكن شرح هذه الكتابات «السلبية» لأسباب تجارية أو سياسية: فالفينيقيون هم منافسو الإغريق تجارياً وأبناء قرطاجة (المنحدرون من الصوريين) الذين حاربوا لسنين الجيش الروماني.
وأدى نقص النصوص الفينيقية التي تشرح طقوس تلك الحضارة الى انقسام حاد بين العلماء حول بعض الظواهر المكتشفة في مدنهم خلال الحفريات. فظاهرة دفن الأطفال والأجنّة في جرار، كما عثر عليها في قرطاجة وصور، لا تزال حتى اليوم نقطة جدل واسع. فالبعض يعتبر أن الفينيقيين كانوا يضحّون بأطفالهم للآلهة خلال طقوس خاصة، فيما اعتبر آخرون أن الدفن في أجرار بوضعية جنينية كان يتم عند وفاة الطفل في سن مبكرة. ومن هنا يرى الخبراء أن الكثير من معالم الحضارة الفينيقية ما زال غامضاً ومثيراً للجدل. وما يعطي هذه الحضارة بعداً واسعاً هو انتشارها في أرجاء البحر المتوسط. فقد كان للفينيقيين مواقع تجارية في الكثير من الجزر مثل قبرص ومالطا وكريت وسردينيا وصقلية، ووصلوا إلى أطراف المحيط الأطلسي مثل قادش وجبل طارق ومواقع في الجزائر والمغرب مثل موغادور وغوريا وبنوا بعض المواقع في جنوب إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. وتعيد الدراسات أسباب هذا الترحال الى البحث عن الذهب والفضة والمعادن الثمينة إلى جانب إيجاد أسواق تصريف لمنتجاتهم الصناعية.




من نشاطات
المعرض


إلى جانب المعرض العام، ينظم معهد العالم العربي وبعض من المنظمات العاملة في إطار الآثار، عدة نشاطات ترتبط بموضوع الفينيقيين. فتقيم «الجمعية الدولية لحماية آثار صور» مؤتمراً مدى يومين (من ٥ إلى ٦ تشرين الثاني)، يلتئم في اليوم الأول في اليونيسكو تحت رعاية المدير العام كوئيشتيرو مَتسورا وسفيرة لبنان لدى اليونسكو سيلفي فضل الله، وتُقدّم خلاله آخر نتائج الحفريات الأثرية في صور، وأبحاث حول مدفن صور الفينيقي ومرفئها، وتصوّر مشهد المدينة كما يعتقد الباحثون أنه كان قبل ٦٠٠٠ سنة، إضافة إلى مشاريع تأهيل المدينة القائمة
حالياً.
أما اليوم الثاني للمؤتمر الذي هو جزء من المعرض الأساسي في معهد العالم العربي، فسوف يكون برعاية رئيس المعهد، وسيتم خلاله التداول في مواضيع تتعلق بالحضارة الفينيقية ككل، لا فقط مدينة صور. أولى المحاضرات هي عن صور وباقي المدن الفينيقية المنتشرة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وهناك أيضاً محاضرات عن الفن الفينيقي والقطع الأثرية التي تعود الى ذلك الشعب ويمتلكها متحف اللوفر، بالإضافة إلى محاضرات عن الفينيقيين في غرب المتوسط. وسيشهد هذا اليوم أيضاً نداء لإطلاق ما يسمى «عصبة المدن الفينيقية» من دون إعطاء أي تحديد لدور هذه العصبة أو سبب قيامها.
وإلى هذا المؤتمر، ينظم معهد العالم العربي سلسلة من النشاطات الثقافية والفنية التي تنضوي إلى إطار التاريخ، بينها ورشات عمل لتعريف الأطفال بهذه الحضارة، وبعض النشاطات الثقافية والترفيهية التي يظهر فيها لبنان. فهناك السينما اللبنانية بين الأمس واليوم حيث ستقدم التحية لكل من رندا الشهال وجوسلين صعب، وسيسهر المعهد في بعض الأمسيات على وقع موسيقى مدن البحر المتوسط، وفي بعضها الآخر سيتمتع الحضور بالرقص الشرقي.