strong> منهال الأمين
على يسار أم كفاح (خديجة حرز) جلست حفيدتها خديجة الصغيرة، فيما تسمّرت طفلة التصقت بالفتاة في مكانها. فالحديث يدور عن «عمو حسن»، وهي تفتقده كثيراً، وتذهب يومياً إلى قبره لتنظفه وتروي المزروعات المحيطة به. الطفلتان، مع أخريات، تحملقن حول الجدة يصغين باهتمام إليها وهي تعيد رواية الحلم الذي راودها منذ عشرات السنين: «أن أكون فدائية، أرتدي بذلة عسكرية، وأولادي معي يقاتلون العدو الذي سلبنا فلسطين مكان الوجع في جسمنا».
عندما انطلقت الثورة الفلسطينية (أواسط الستينيات)، كانت «خديجة حرز» ربة منزل عشرينية، تقيم مع زوجها في الكويت. المرأة الشابة التي تحمل فكر المقاومة وتهتمّ بالقضايا العربية، كانت من النساء القليلات في محيطها اللواتي يهتممن بالسياسة ويتفاعلن بصمت مع أخبار الفدائيين «لأن الخوض في السياسة تلك الأيام كان أمراً غير مستحب للنساء، فكيف بالعمل المقاوم».
عندما عادت أم كفاح إلى لبنان حققت حلمها. انخرطت في المقاومة الفلسطينية ومارست النضال على أصوله. فنظمت تظاهرات ضد العدو للإفراج عن المعتقلين (بينهم زوجها). نقلت السلاح والصواريخ للفدائيين، وانتهى بها الأمر معتقلة لدى الجيش الإسرائيلي بعد أن فصلوها عنوة عن طفلة رضيع كانت على يدها.
جاء اعتقالها بعد الاجتياح الاسرائيلي في عام 1982 ببضعة أشهر. من هذه المرحلة لا تنسى خديجة بتاتاً ما حصل معها بعد إحدى جولات التعذيب الرهيبة في سجن الرملة في فلسطين المحتلة. ذلك اليوم دخل إلى الغرفة ضابط صهيوني ورمى عليها، هي المرمية أرضاً من الإنهاك، صحفاً إسرائيلية قائلاً: «أنتِ يا من لا تساوين شيئاً...، انظري ما فعلته صواريخك في إسرائيل. أنت تستهزئين بـ30 ألف جندي إسرائيلي دخلوا لبنان لمنع هذه الصواريخ. يجب أن «تعفِّني» مثل البطاطا والبصل في «نيفي ترسا» (سجن الرمل)».
لكن خديجة لم «تعفّن» هناك، فالمقاومون لا ينسون أسراهم. قضت نحو 10 أشهر في سجون الاحتلال تعرضت خلالها لمختلف أصناف التعذيب، وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية تبث عنها الأخبار المسيئة. في الوقت نفسه كان الشارعان اللبناني والفلسطيني يثيران قضيتها وينظّمان التظاهرات للمطالبة بالإفراج عنها، وهو ما حصل في التبادل الكبير (5 آلاف أسير مقابل 5 جنود إسرائيليين) في 25 تشرين الثاني 1983، بعدما كانت قد حوكمت في محاكمة صورية قضت بسجنها مدى الحياة.
تجربة الأسر هذه كانت صعبة على خديجة وأولادها، لكنها لم تغيّر لها قناعاتها، فربّت أولادها على حب المقاومة وعلّمتهم أن يحاربوا ويستشهدوا، لكن «أرجوكم لا تؤسروا»!... تؤكد أنها لم تخف يوماً من فكرة استشهاد أحد أبنائها «فرحة أن يكون ولدي مقاوماً كانت تتفوق لديّ على أية مشاعر أخرى».
هكذا، بينما يكون همّ الأمهات عادة أن يصبح أولادهن أطباء ومهندسين... أو أي شيء آخر إلا مقاومين... كانت أم كفاح تجهد لتربي أولادها على خط المقاومة.
***


لهذه الأم، ومن هذه البيئة، وُلد حسن وهيب ياسين.
كان لا يزال فتى صغيراً حين خطّط وبعض رفاقه في عام 1985 لاغتيال أحد العملاء. جهزوا عبوة بدائية وزرعوها على الطريق. فجّروا الهدف إلا أنه نجا... وكرّت المسبحة مع حسن. فأمضى أكثر من اثنين وعشرين عاماً برفقة المدفع الرشاش والبذلة العسكرية التي حلمت بها أمه دوماً، و«محمولة» تدور به من جبهة إلى أخرى.
أمطر عشرات المواقع المنتشرة على طول ساحة الجنوب بوابل مدفعه. كان يقارع به آليات العدو وجنوده ودشمه الحصينة. اختصّ بالمدافع والرشاشات الثقيلة حتى آخى كل أنواعها فصار يُشار له بالبنان في صفوف المقاومة. كان لا يقيم وزناً للطائرات المروحية، فيندفع مطارداً لها لكي يتيح لرفاقه المشاة التحرّك في أرض المعركة. جريء مقدام كما يصفه كل رفاقه وإخوته، لا يثنيه شيء عن العمل المقاوم. هاجسه الوحيد أن لا يموت على الفراش خصوصاً بعدما أصيب بالربو وبات يحتاج إلى عناية خاصة، فصار يطالب المقاومة بتأمين هذه العناية له خلال عمله لكي يستمرّ في المشاركة في المقاومة مهما كان وضعه سيئاً.
هكذا، صار حسن يخرج في مهمات قتالية بعد أن يضع الأدوية والعقاقير في جعبته مع مخازن الرصاص والقنابل. ويذكر أحد رفاقه أن المقاومة كانت تُعدّ لعملية نوعية، وكان حسن من الذين يتهيأون للمشاركة فيها، لكن في يوم التنفيذ كان حسن طريح الفراش، وعندما علم أن موعد التنفيد أزف رفض بشكل قاطع أن يتخلف وطلب من رفاقه أن يوصلوه إلى مربضه وأن يضعوا «ماسك» الأوكسيجين على فمه وهو يرمي، وهكذا كان. في عملية على موقع حداثا، فتح حسن معركة مع دبابة معادية رمت عليه 33 قذيفة وهو يطلق عليها الرشقات تلو الرشقات، ثم استطاع أن ينسحب بسلام ويسحب معه جريحاً أصيب بالقرب منه.
اشتهر حسن بروح مرحة، حتى في اللحظات الحرجة كانت نكتته حاضرة. أما في العمل المقاوم فكان مبتكراً يبتدع الوسائل والأساليب التي قد تثير السخرية في البداية، لكنها كانت تثبت فاعليتها مع الوقت. ومنها أنه ثبّت رشاش 12,7 على الدراجة النارية، وصار يستعمله على هذا النحو في حرب نيسان1996، وفي عدد من العمليات والمواجهات.
***


تروي أم كفاح كيف كان حسن لجوجاً بطلب الدعاء له بالشهادة. نجا من الموت مرات عديدة، وفي كلّ مرة كان يحمّل المسؤولية لأمه لأنها لا تدعو له. «في إحدى العمليات أصاب صاروخ الطائرة ـــــ «هلفاير» الحارق ـــــ محمولة حسن مباشرة، فأصيب مع رفيق له إصابات خطيرة ونجَوا بأعجوبة. تروي الوالدة: «كنت يومها في العمرة، وكان أحد المعتمرين يردّد بالقرب مني «أجرني من النار يا مجير»، فصرت أردّد مثله. عندما عدت وعلمت بما حدث، اتصلت بحسن مباشرة فقال لي فوراً: أكيد دعوت على ذوقك.. الله يسامحك».
أعادت حرب تموز 2006 إلى عقل أم كفاح وروحها كلّ أحاسيس الأيام الخوالي وعنفوانها. «قساوة الحرب تطلبت رداً قاسياً مني، فلم يكن عظيماً عليّ أن يستشهد أحد أولادي. كان حسن يقاتل بيدي. تمنيت أن أكون معه ومع الشباب الذين يقاتلون في الجنوب».
بعد استشهاد حسن كانت أم كفاح تصرّ على أن تبقى متماسكة، لكن «عندما كنت أعود لنفسي وأفكر بولدي كيف استشهد وماذا كان يفعل، وأين أصابه الصاروخ من جسده.. كنت أشعر بجلدي يحترق فأضع الماء على جسدي حتى أهدأ».
لا يخفف من هذا الشعور إلا معرفتها للدور الذي أدّاه الشهيد حسن في حرب تموز 2006. كان قائداً ميدانياً، يصرّ على أن يباشر العمل بنفسه. الصباحات الأخيرة في حياته كانت لها نكهة خاصة. يعمل بقوة على بث المعنويات في رفاقه المقاومين. يفتتح النهار بحديث للإمام علي ـــــ سمّاه نشيد الصباح ـــــ يذيعه على الرفاق عبر الجهاز اللاسلكي: «تد في الأرض قدمك، أعر الله جمجمتك، اضرب بنظرك أقصى القوم..». ثم يبدأ بالإبلاغ عن الغارات. وعندما كان العدوّ يكثّف غاراته على منطقة ما كان يقول: «يبدو أن الجماعة يستخرجون النفط من هناك».
كان حسن صديقاً لأمه لا ابناً فقط. قبل استشهاده بيومين اتصل بها، وكالعادة طلب منها الدعاء المعهود لأنه يعلم أن شهادته متوقفة على ذلك. ثم أوصاها أن تهتم بأولاده.. غصّت أم كفاح بعبرتها. تذكرت حلماً حلمت به بعد حديثها مع حسن حيث رأت منزلهم في الضيعة كأنه قلعة صخرية دائرية الشكل، وأمها (المتوفاة من مدة طويلة) جالسة حزينة على الأرض. ثم رأت القلعة تهتز وتميل قليلاً ثم تعود كما كانت. استيقظت أم كفاح فأدركت أن بيتها سيتعرض لهزّة ما. توضأت وصلّت ركعتين ودعت ربها: «إن كان مكتوباً لأحد أبنائي الشهادة فلتكن لحسن». وهذا ما حدث.
***


استشهد حسن في التاسع عشر من تموز 2006، عند صلاة الظهر حيث وجد بعض الشهداء الذين قضوا معه في حالة سجود، تحت الأنقاض في المنزل المدمر. ويروي أحد رفاقه عن لحظاته الأخيرة أن حسن، بعدما استمع إلى خطاب سيد المقاومة وإعلانه على الهواء مباشرة ضرب البارجة الحربية الإسرائيلية، راح يقول للشباب: الآن طاب لي الموت...
... في التاسع عشر من تموز أيضاً، كان شقيق الشهيد حسن في موقع آخر من مواقع المقاومة يدير اجتماعاً للشباب حين تلقى اتصالاً... ويروي من كان حاضراً أن شقيق الشهيد أجاب على الاتصال بالقول: «خير إن شاء الله» ثم عاد إلى متابعة عمله بهدوء، قبل أن يفتح القرآن ويغرق فيه. لاحقاً، عرف الشباب أن الاتصال كان يحمل خبر استشهاد حسن.
استقبلت أم كفاح خبر استشهاد حسن بالزغاريد وسجود الشكر. لكنها لم تعد تطيق صبراً على بعدها عن الجنوب. صارت تخرج إلى الشرفة في الشقة التي لجأت إليها مع بعض أفراد عائلتها في الحازمية، تناجي الهواء كي يحملها إلى هناك، حيث رفع حسن أذان الصلاة وقرأ حرفاً من دفتر علي وغادر إلى أحبة سبقوه مثل حسين سلمان وحسن الأمين وباسل علاء الدين وآخرين كثر لطالما كان يعبر دائماً عن شوقه لهم، وهذه المرّة لم تحرمه والدته خديجة بركة دعائها.
أم الشهيد في خدمة عوائل الشهداء

لم تكن خديجة حرز قد سمعت بمؤسسة الشهيد يوم دخلت السجّانة الاسرائيلية زنزانتها في سجن الرملة في فلسطين المحتلة وعلّقت على الحائط صورة امرأة وراحت تنظر إليها باحترام بالغ. لاحظت خديجة هذا الاهتمام الكبير بصاحبة الصورة فسألت السجانة باستهزاء: من تلك في الصورة، أهي جدتك؟. فأجابتها على الفور: «نعم هذه جدتي وجدة كل جيش الدفاع الإسرائيلي». ثم أخذت تشرح لها ولمن حضر في الزنزانة عن تلك المرأة وكيف أنها أنشأت حضانة لاستقبال أطفال الجنود القتلى فصارت مثالاً ورمزاً يفتخر به كل من ينتمي إلى المؤسسة العسكرية في الكيان الصهيوني.
لاقت الفكرة استحسان «خديجة»، وصارت تفكر كيف يمكن أن تنقل هذه الفكرة (رغم أنها محكومة مدى الحياة) إلى المجتمع اللبناني الذي كان قد بدأ يعاني لكثرة ما سقط فيه من شهداء. وأخذت عهداً على نفسها أن يكون همّها الأول والأخير إنجاز مشروع لخدمة عوائل الشهداء وأطفالهم. لكنها عندما تحررت من المعتقل، كان الهمّ الكبير الذي ينتظرها منزلها وأطفالها، فعكفت عليهم ترعاهم وتربّيهم.
وفي عام 1995، وكانت خديجة قد نسيت ما حصل في سجن الرملة، جاء من يعرض عليها العمل في برنامج خاص بزوجات الشهداء ضمن مشروع جديد تعكف عليه مؤسسة الشهيد سينطلق في القريب العاجل.
12 عاماً هي عمر مسيرة «خديجة» في مؤسسة الشهيد التي احتفلت بعيدها الخامس والعشرين منذ أيام، وكانت قد بدأت نشاطها بعد اسبوعين من الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام1982 بتحرّك عفوي لمجموعة من الشباب الذين عملوا على استيعاب آثار العدوان الاسرائيلي وجمع التبرعات المادية والعينية وتوزيعها على مستحقيها. وتطوّر هذا التحرّك العفوي ليصبح مؤسسة قائمة بذاتها حملت اسم «الشهيد» حصلت على ترخيص رسمي من الحكومة اللبنانية في شباط 1989 تحت اسم «جمعية مؤسسة الشهيد الخيرية الاجتماعية»، واتخذت فيما بعد من الحادي عشر من تشرين الثاني من كل عام عيداً لها، وهو اليوم الذي نفّذ فيه المقاوم أحمد قصير أول عملية استشهادية ضد الاحتلال الإسرائيلي في مبنى «عزمي» في صور (يوم الشهيد).