أنطوان سعد
أما وقد سلّم البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، على ما يبدو، لائحة أسماء المرشحين المقبولين منه أو من يُمكن التوافق عليهم لرئاسة الجمهورية، وقام بذلك بتجرّع الكأس المرّة التي حاول جاهداً إبعادها عنه، فإن صدقية الأسرة الدولية، بما فيها القوى الإقليمية التي سبق أن أعلنت التزامها بعملية التوافق بين اللبنانيين باتت على المحك. فبعد واحد وخمسين يوماً على بدء المهلة الدستورية، وقبل تسعة أيام على انتهائها، أقدم سيد بكركي على إعادة «كرة النار» التي أصرّ الأطراف المحليون على قذفها إليه بعدما عجزت القيادات المارونية وكذلك القيادات غير المسيحية على التفاهم حول اسم أو أكثر يطرح على مجلس النواب، وبعد تدخل لافت جداً للأسرة الدولية.
من النافل القول إن البطريرك الماروني طلب ضمانات من الجهات المحلية والأجنبية التي راجعته طالبةً تدخله. ولكن الأكيد، سواء أعطي الضمانات التي طلبها أو لم يُعطَها كاملة، ثمة مجازفة ارتضى سيد بكركي أن يأخذها من أجل محاولة إنقاذ الاستحقاق. ولعل أكثر ما يريد إثباته أن العقم الذي يواجه الاستحقاق الرئاسي لا تتحمل بكركي بأي شكل من الأشكال مسؤوليته وهو لا يمس بتاتاً صدقيتها وهيبتها وموقعها التاريخي كما حاول تصويره بعض القادة الطامحين لرئاسة الجمهورية أو الطامح لقطع الطريق على بعض الطامحين إليها. إذ لا أحد يجهل خطورة الأزمة وتعقيداتها التي تتداخل فيها اعتبارات يبعد بعضها آلاف الكيلومترات عن العاصمة اللبنانية، وبالتالي فإن لا تبعة يمكن إلصاقها بالبطريرك صفير سوى اتهامه بالسعي إلى تجنيب البلاد خضة ليس باستطاعة أحد التكهن بمداها الزمني ولا بالحدة التي ستبلغها المواجهات السياسية وربما غير السياسية.
جرى التداول بعد ظهر أمس بصيغ عديدة للائحة البطريرك صفير الذي لا يزال يتكتم في شكل كامل على مضمونها. فيما تشير بعض الأوساط المطلعة إلى أن الموفد الفرنسي جان كلود كوسران حملها إلى وزير خارجية بلاده برنار كوشنير ليتولى المفاوضة بشأنها مع الولايات المتحدة، وربما سوريا، وطرفي المعارضة والموالاة والتحقق من تجاوبهما معها قبل طرحها رسمياً عليهما. وبذلك لا تعود اللائحة التي يجري التداول فيها لائحة البطريرك صفير وحده، بل اللائحة التي تعمل على إنجازها الأسرة الدولية. وتضيف معلومات غير مؤكدة بعد أن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط دايفيد وولش سيصل إلى لبنان اليوم أو غداً لسبر أغوار ونيات الأطراف اللبنانية حيال التطورات الأخيرة في استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية وبالتحديد من أجل تطوير الآلية التي ستنتج رئيساً توافقياً للبنان، ولكن مع الحفاظ على أمرين تعتبرهما الإدارة الأميركية ثابتتين: وحدة فريق الرابع عشر من آذار، ووصول رئيس يحترم الشرعية الدولية وقراراتها.
غير أن كل هذه الضمانات التي أضيفت إليها أمس زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى لبنان واجتماعاته التي عقدها وسوف يعقدها اليوم مع القيادات اللبنانية، لا تكفي إذا لم تسهل سوريا عملية الاستحقاق الرئاسي. وهذا ما تدل إليه النتائج التي حصدتها المبادرة البطريركية في تشرين الثاني عام 1988. ففي السادس والعشرين منه، سلّم سيد بكركي السفير الأميركي جون مكارثي لائحة الأسماء الخمسة التي اصطفاها في اليوم السابق، بعد انتخاب أبيض أجراه النواب المسيحيون المقيمون في المنطقة الشرقية في بكركي. ومن المفترض كان، بحسب الاتفاق الذي جرى قبل أيام في الفاتيكان مع البطريرك وإدوارد والكر ورفيق الحريري، أن ينقل الأميركيون اللائحة إلى السعوديين الذين أخذوا على عاتقهم إقناع سوريا بها. لكن حلفاء دمشق آنذاك نبيه بري ووليد جنبلاط شنّا هجوماً سياسياً على البطريرك، في الثاني من كانون الأول، إيذاناً بسقوط المبادرة.
تعليق البطريرك جاء في عظة عيد الميلاد: «إن أزمة لبنان غير عادية وتعالج بطرق عادية. يقتضي لها رجال دولة من طراز أول (...) وقد تصدى لها من تصدّى بغير هذه الذهنية ولا نزيد. قمنا على كره منّا بما سمّوه مبادرة بتشجيع من مراجع دولية كبيرة. ولو لم نقم بها لاتّهمنا بالتقاعس. وعلى رغم علمنا بما سنتعرض له من انتقاد لاذع، سعينا إلى ما سعينا إليه، رغبة منا في المساهمة في حلحلة بعض عقد الأزمة (...) ولا نخفي كم ضامنا أن يُقال ما قيل في المبادرة وظروفها ودوافعها وأسلوبها وما أراد بعضهم أن يربطه بها وأن يحمّلها فوق ما تحمل، خلافاً لما صار عليه الاتفاق».