strong>كامل جابر
وحصل ما كان متوقعاً منذ نهاية حرب تموز 2006... حصل ما أُنذر كلّ المموّلين في الجنوب منه. أموال التعويض التي تدفع لإعادة بناء المباني المتضررة أو ترميمها تقتل اليوم ماضي الجنوب وتراثه. ففي قرية حولا مثلاً، بدأ السكان بهدم منازل أجدادهم عمداً علّ التعويضات تصلهم

بيوت صغيرة في قرية صغيرة. بيوت من الطين بناها الأجداد وورثها الأحفاد. بيوت تتلاصق في الأزقة الضيقة فتخلق جواً يعبق بالقدم الأصيل الذي لم يُدخل عليه الإنسان الحديث تعديلاته. قرية تراثية نموذجية، تلك كانت قرية حولا القديمة قبل حرب تموز 2006، قبل أن تدقّ أموال التعويضات بابها.
يؤكد المهندس طارق مزرعاني «أن القصف الإسرائيلي كان قد أدى إلى ضرب الأحياء القديمة في حولا، مع العلم أن هذه البيوت واهية مكشوفة، وليست كما يدّعي العدو أنها مخابئ للمقاومين. لكن الواضح أن العدو أراد ضرب الذاكرة الجماعية للناس المتعلّقة بالأرض وبيوت الآباء والأجداد. ومع الأسف، ما عجزت عنه إسرائيل أكمله السكان أو البلديات أو من يتولون الشؤون العامة في القرى والبلدات».
ويشير مزرعاني «إلى أن أوّل ما قامت به بلدية حولا بعد عدوان العام الماضي، هو ردم بركة حولا القديمة القريبة من الساحة العامة»، متسائلاً: «إذا كانت البلدية نموذجاً في هدم الذاكرة، فكيف سنلوم بعدها الناس الذين وجدوا في بعض مبالغ التعويض فرصة لا تعوّض، وخصوصاً أن القوانين لن تقف عثرة أو تشكّل رادعاً بعد الحرب، بل تكاد الرقابة تغيب تماماً في أحوال كهذه؟».
لذا يقف المهتمون بالإرث التراثي في بلدة حولا الحدودية، من غير حول أو قوة، فيما تفلح الورش والجرافات في دكّ البيوت العتيقة واستبدالها بأبنية حديثة؛ وخصوصاً في «الضيعة» القديمة التي حافظت على هذه الثروة التراثية رغم كلّ ما تعرّضت له البلدة من اعتداءات إسرائيلية متكررة، بدأت منذ عام 1948.
تهجير أهل حولا دام سنوات طويلة وأدى دوراً رئيسياً في بقاء الحلّة التراثية على مجمل الضيعة القديمة. فشكلت هذه الأخيرة مفاجأة للأجيال الشابة التي وُلدت وترعرت خارج حدود البلدة، وخصوصاً بعد عودتها من التهجير القسري غداة التحرير في عام 2000.
ويقول المهندس مزرعاني إنه بعد «العودة» تمكّن بالتعاون مع عدد من أبناء البلدة من جمع كثير من أدوات البيوت القديمة وعدّة الفلاحين وإنشاء «متحف» متكامل عن الضيعة اللبنانية بنموذج حولا. ويقول: «فتحنا أبواب المتحف أمام أبناء القرية والزوّار طوال موسم الصيف، وأطلقنا حملة توعية من أجل الحفاظ على هذا الإرث التراثي الفريد من نوعه. لكن ذلك لم يعطِ أيّ نتيجة. فالعديد من أبناء البلدة يرغبون بإنشاء بيوت جديدة وحديثة. وبما أنه ليس هناك قوانين فعلية تحمي الأبنية التراثية، كما أن مجالس البلديات المتعاقبة لم تعمل على استثمار «الضيعة القديمة» سياحياً واقتصادياً بشكل يُرغّب فيه المالكين بالمحافظة على القديم. أضف إلى كل ذلك غياب الوعي العام لأهمية هذه الثروة المتعلقة بالذاكرة».
إلى كلّ ذلك، «أتت حرب تموز لتزيد الطين بلّة؛ ولتجعل الأمر ينفتح على غاربه بعدما وجد الناس فرصة للاستعاضة عن القديم بالجديد». وقد أدت مبالغ التعويض «المغرية» إلى فتح «شهية» أصحاب البيوت القديمة وورثتها وحثّهم على استبدالها بأبنية جديدة وحديثة. فـ«فلت الملّق» فيما المجلس البلدي يتلهى في تجاذباته الداخلية، العائلية والسياسية. ولم تجد بعض الأصوات التي ارتفعت من هنا وهناك تنادي بحماية الذاكرة والإرث التراثي آذاناً صاغيةبيوت الضيعة في حولا قديمة، لكنها صغيرة ومتواضعة، وقد بنيت على قدر احتياجات أصحابها. إنما ما يجري اليوم من هدم واستبدال بأبنية جديدة، يأتي أيضاً على حساب الطرقات والأزقة، إذ إن البيوت الحديثة انتشرت وتخطت الأحجام السابقة واتسعت نحو الطرقات، ما سبب العديد من المشاكل بين الجيران والورثة، وفي بعض النفور والحساسيات العائلية وكذلك السياسية.
ويكفي ما جرى بعد ردم البركة القديمة، من تجاذب وانقسام وصل إلى داخل المجلس البلدي، بيد أن قرار السلطة التنفيذية في البلدية «كان الأقوى، من دون حسابات مستقبلية أو خطط لاستثمارها في مشاريع بديلة، أو مراعاة حاجة المياه التي تبدأ مطلع كل صيف ولا تنتهي، وخصوصاً أن الزراعة في حولا لم تزل في مرتبة متقدمة ويحتفظ أبناء البلدة بكثير من الدواب والماشية».
وعن عدم التصدي لهدم البيوت التراثية، يقول مزرعاني: «إن أي صرخة من هذا النوع يُتهم صاحبها بأنه رومانسي أو ضد السلطات المحلية. نحن نلعن الدولة ألف مرة بسبب غيابها، لكننا ولا مرة نسأل أنفسنا، نحن ماذا فعلنا من أجل حماية الإرث الأثري والتراثي؟».
فللمرة الأولى في تاريخها، تلفح الشمس ورذاذ الندى الليلي هذه «الكبكة» أو تلك بعدما انتزعت من رباطها الوثيق في سقوف البيوت وألقيت نفايات في الحقول. وعبثت المطارق ببعض «الدواخين» التي شهدت عزاً لم تبلغه المداخن الحديثة، إذ كانت مواقد أطعمة الناس ومبعث دفئهم.
ويؤكد البعض ممن يحتفظون ببيوتهم القديمة أنهم لن يقوموا بهدمها، لأن آباءهم وأجدادهم من قبلهم لم يهدموا يوماً بيتاً ورثوه، ولم يردموا بركة، أو يتخلصوا من أدوات العمل ومعدّاتهم. لكن للأسف، قلة هم أهل هذا القرار. فخريف هذا العام، على نحو غيره في الأعوام السابقة في حولا، بيت أو اثنان فقط من أصل مجموعة، حدل أصحابه سطحه الطيني تحضيراً لموسم الشتاء ومنعاً لتسرّب المياه. و«المحادل» الصخرية التي كانت تشدها الزنود العامرة بالرغبة، رواحاً ومجيئاً، طوال ساعات لتلبد التراب المجبول بالتبن وترصّه، غاب بعضها هدايا للزائرين أو ركن البعض الآخر في حدائق لتجعل من «كمالياتها».
لكن ما يجري اليوم في حولا مستغرب جداً. ففيما يجهد الناس في مناطق أخرى من لبنان في تبديل الحديث بالقديم بغية استثماره اقتصادياً وسياحياً، وفي حين أن حركة تجميل المدن والقرى وترميم المباني التاريخية تعم أرجاء البلد، حتى إن بعض المنظمات العاملة في مجال الآثار والتراث راحت تبني متاحف على الطراز القديم... فالبلد بأجمعه يبحث عن طرق لإعادة إحياء الماضي، أما أهل حولا فيدمرونه. والمحزن أن المقاولين والممولين لإعادة الإعمار لم يشعروا بعد بخطورة عملهم على هوية القرى.

الآثار
المنسية

لا يتوقف تدمير التراث والآثار في حولا عند حدود الأبنية التراثية، بل يتعداه إلى الأبنية الأثرية. فقلعة «دوبيه» الصليبية الواقعة بين قريتي حولا وشقرا تعرضت عدة مرات للقصف، وبقيت صامدة. لكن الإهمال راح يستهدفها أكثر من العدوان، وها هي الأشجار تنبت بين حجارتها فتؤدي إلى تفسخها ثم انهيارها، وليس من يحرّك ساكناً.