نقولا ناصيف
هل أضحت لائحة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير للمرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية عبئاً على الاستحقاق، عوض أن تكون مخرجاً لخلاف مزدوج على انتخاب الرئيس الجديد: خلاف القيادات المارونية في ما بينها على مَن ترئّس، وخلاف قوى 14 آذار والمعارضة على هوية الرئيس؟
لم يكن البطريرك متحمساً مرة لوضع لائحة بمرشحين تستعيد أمامه التجربة المخيّبة التي خبرها عام 1988، وهو لم يضع اللائحة الثانية إلا بعدما أعلن كل من رئيس المجلس نبيه بري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري أنهم «وراء البطريرك». كان بري أول القائلين بالعبارة في كانون الثاني 2005 على أبواب الانتخابات النيابية عامذاك، وردّد العبارة من بعده الرئيس رفيق الحريري. قالا إنهما مع قانون الانتخاب الذي يريده البطريرك. ثم أتى وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير إلى بيروت الأسبوع الفائت لينضم بدوره، ضمناً، إلى تلك العبارة، ويطلب من البطريرك لائحة بمرشحين محتملين بغية إنقاذ الاستحقاق الرئاسي. وفي ضوء أكثر من إلحاح، قرّر سيد بكركي وضعها، فإذا بها تفضي إلى نتائج سياسية مربكة للموالاة والمعارضة في وقت واحد، إلا واضعها:
ـــــ لأنها وُضعت في ظل معايير بقيت غامضة إلا في عقل البطريرك ووجدانه وحده، ما خلا عنوانها الذي هو اختيار مرشحين توافقيين. استخفت اللائحة بمَن صدّقوا أوهامهم ووعودهم لأنفسهم بأنهم مرشحون جديّون كوزير العدل شارل رزق، واستبعدت مَن لا يزال بين بكركي وبينه حساب سياسي قديم عالق كالوزير السابق جان عبيد، ومَن يقاربون جهودهم على أنهم حل وسط ممكن دفعوا ثمناً باهظاً باسم السيادة والاستقلال كالرئيس أمين الجميل، ومَن يضعون أنفسهم في منتصف الطريق بين المعارضة والموالاة وبين هذه وسوريا كالوزير السابق فارس بويز. لكن اللائحة سمّت في المقابل مرشحين كالوزير السابق الشيخ ميشال الخوري هو على هامش الصراع السياسي المحتدم مارونياً وسياسياً، على غنى انتسابه إلى التجربتين الدستورية لوالده الشيخ بشارة الخوري والشهابية للرئيس فؤاد شهاب، وكان آخر مرة صار إلى تداول اسمه مرشحاً محتملاً للرئاسة في انتخابات 1970. وفي واقع الأمر طرح البطريرك اسمه من باب حنين إلى تلك التجربتين المخضرمتين وقد فككتهما تباعاً الانقسامات المسيحية والسياسية الداخلية: الدستورية في الخمسينات، والشهابية في السبعينات.
بذلك لم ترضِ لائحة البطريرك المستبعدين السياسيين الذين لم يعرفوا سبباً لإقصائهم عن اللائحة، وهم مرشحون طبيعيون للاستحقاق الرئاسي، ولم تنصف كل المرشحين الذين يحتاج انتخابهم إلى تعديل دستوري، فضمّت مرشحاً سابعاً هو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وتجاهلت قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي كان البطريرك قد أيّد تعديل الدستور لانتخابه إذا بدا انتخابه ينقذ لبنان.
على نحو كهذا، التزمت لائحة بكركي مواصفات المرشح التوافقي، غير المنتمي إلى هذا الفريق أو ذاك، إلا انها وضعت في طريق كل منهم سيلاً من الاعتراضات والفيتوات التي تجعل من الاتفاق على أحدهم صعباً. ولا تكمن المشكلة هنا في بكركي بالذات، بل في المرشحين المطروحين أنفسهم لأن لكل منهم مشكلة، في الماضي والحاضر، سواء مع قوى 14 آذار أو مع المعارضة، أو مع الاثنين معاً.
ـــــ ولأن لائحة البطريرك أضحت المكان الوحيد الذي سيخرج منه الرئيس المقبل للجمهورية، وهو مغزى الضمان الذي أصرّ البطريرك على طلبه وسلّم له به بري والحريري، فإن الخوض في أي تسوية للاتفاق على اسم لم يُدرج فيها سيمثّل إساءة إلى البطريرك والضمانات التي أعطيت له، وهو العارف بأن أكثر من فريق سياسي في الموالاة والمعارضة ـــــ بمن فيهم مسؤولون كبار ـــــ لم يتلقوا اللائحة بارتياح ظاهر. وهكذا بمقدار ما شاء صفير لائحة الأسماء حلاً اقترحه الآخرون عليه وتركوا له حرية الاختيار لإجراء الاستحقاق الرئاسي، أضحت مأزقاً يهدّد الاستحقاق نفسه. انتقل التحفظ عن بعض الأسماء الواردة في اللائحة إلى تبادل فيتوات بين طرفي النزاع عليها. رفضت المعارضة التوافق على النائب روبير غانم، وعدّت ترشيحه صورة مكمّلة لترشيح النائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود أكثر منه مستقلاً عن قوى 14 آذار ، وكانت الرسالة الأبلغ ـــــ المنطوية على إشارات سورية واضحة لا لبس فيها ـــــ من الوزير السابق سليمان فرنجيه بمناوأة ترشيحه، ناهيك بموقف مماثل لحزب الله منه. فردّت قوى 14 آذار بوضع فيتو مشابه على تسمية الوزير السابق ميشال إده، تارة بحجة خلاف سابق بينه وبين الحريري الأب على ملف الهاتف الخلوي عام 2000 وتبني وجهة نظر الرئيس إميل لحود من هذا الملف، وطوراً لتأييده المقاومة واستمرارها في الاحتفاظ بسلاحها، أضف إلى ذلك استعادة مواقف سابقة له من وجود الجيش السوري في لبنان. إلا أن طرفي النزاع لم يتبادلا الفيتوات على اسم المرشح الثالث في اللائحة ميشال الخوري لأسباب عزَواها إلى أن إدراج اسمه لا يعدو كونه ترضية معنوية. بذلك تبدو أبواب التوصّل إلى تسوية من خارج اللائحة موصدة، ومن داخلها محرجة للطرفين اللذين لم يعودا يريان في اللائحة مخرجاً مشرّفاً في الاتفاق على رئيس توافقي كانا يبحثان عنه لتفادي الفراغ الدستوري.
ـــــ ولأن لائحة البطريرك لم تشكّل كذلك مخرجاً للالتزامات الأخلاقية والسياسية على السواء لدى قوى 14 آذار والمعارضة حيال مصير المرشحين المعلنين لكل منهما. إذ مجرّد التفاوض على رئيس توافقي ـــــ وهو فحوى حوار بري والحريري وخلافهما في الوقت نفسه ـــــ عنى التخلي عن الخوض في أسماء الفئة الأولى من مرشحي لائحة بكركي وإن ظاهراً، أي الرئيس ميشال عون وحرب ولحود. على أن تجاهل ترشيح الأخيرين في هذا التفاوض ـــــ من دون أن يصدر عن الحريري ما هو عكس ذلك ـــــ أبرَزَ محاولة استخفاف بموقعيهما في قوى 14 آذار كغطاء مسيحي قوي للفريق الآخر في الموالاة، وكلاهما يمثل الإطلالة الأكثر رصانة وصدقية واحتراماً لدوريهما ومواقفهما. فكان أن استنفد التلويح بتأييدهما ودعمهما كل الأشهر الماضية من التجاذب السياسي مع المعارضة، تارة بالإصرار على المضي في ترشيحهما معاً، وطوراً بنعت الأول مرشحاً توافقياً والآخر مرشح تحدّ. فإذا بقوى 14 آذار تذهب بمناورتها هذه إلى مرشح ثالث، ويخرج حرب ولحود من الاستحقاق ـــــ أو هذا ما يوحي به تطوّر التفاوض على الأقل ـــــ وقود معركة سياسية استسلمت في نهاية المطاف لمطلب بري في التوافق. المشكلة نفسها يواجهها حزب الله مع عون من غير أن يبدو حتى الآن أنه في صدد التخلي عن ترشيح حليفه المسيحي القوي. وما لم يطلبه أركان قوى 14 آذار من حرب ولحود، فعله حزب الله حيال عون بوضع العقبة الكأداء وهو يعرف سلفاً ردّ فعل حليفه: يتخلى حزب الله عن ترشيح الجنرال إذا تخلى الأخير عن ترشيح نفسه.