نقولا ناصيف
تدهور الاستحقاق الرئاسي على نحو غير مسبوق مذ أعلن عن الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لبيروت بعد ظهر الأحد الفائت، وكان مقرراً وصوله مساء اليوم، الثلثاء. ورافق هذا التدهور إيحاء بإخفاق كل الجهود المحلية والدولية لإجراء الانتخاب الرئاسي، من غير أن تطفو إلى السطح مواقف حادة، ما خلا ما أعلنه البارحة العماد ميشال عون. وبسحر ساحر بات الجميع مع التوافق، إلا أن أحداً لم يكشف سرّ العودة المفاجئة لكوشنير ولغز القلق الذي عبّر عنه قبل وصوله إلى بيروت، بل قبل أن يصل هذا القلق إلى قلوب اللبنانيين جميعاً. وهكذا انفجر الاستحقاق الرئاسي بسبب الانتقادات القاسية، المعلنة والضمنية، التي سيقت ضد لائحة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بأسماء المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية. فلم ترجع بالجهود الدولية لإجراء الانتخاب الرئاسي إلى نقطة الصفر فحسب، بل أضحى الاستحقاق برمته قيد خطر السقوط في الفراغ الدستوري. وبات التساؤل الوحيد الذي رافق اتصالات البارحة: هل لا يزال ممكناً، الجمعة المقبل، إجراء الانتخاب في الساعات القليلة التي تسبق انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، منتصف ليل 24 ـــــ 25 تشرين الثاني؟
الإجابة المقتضبة لجهات رفيعة المستوى هي أن الأبواب موصدة تماماً وقد خُتمت أقفالها ليل أمس. لا جلسة رابعة لانتخاب الرئيس غداً، وقد لا تكون هناك جلسة خامسة الجمعة. إلا أن انفراجاً محتملاً في ضوء تسارع الأحداث والمشاورات بغية إنقاذ الاستحقاق الرئاسي والدور الفرنسي في لبنان، ومن ثم ـــــ وخصوصاً ـــــ إنقاذ هذا الشق من القرار 1559 الذي يمثل المظلة الدولية لإجراء الاستحقاق، قد يجعل انعقاد الجلسة متاحاً خلال ساعات.
في واقع الأمر كان ثمة أكثر من مؤشر إلى احتمال انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية قبل انقضاء المهلة الدستورية، من غير أن يكون هناك يقين بأن الانتخاب حاصل بالضرورة في الجلسة الرابعة المقررة غداً، قبل أن تدخل على المؤشرات تلك القطبة المخفية:
1 ـــــ ردود الفعل الأولى والعلنية التي رافقت الإعلان عن تسليم البطريرك رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري لائحة بكركي. ومع أنهما التزما الصمت حيالها، واكتفيا في الاجتماع الوحيد الذي عقداه مساء السبت بمناقشتها، فإن تسريب الأسماء التي تضمنتها والتكهنات التي أحاطت بها، فتحا باباً على جدل سياسي لم يرمِ إلى انتقاد الأسماء تلك فحسب، بل أيضاً إلى تقويم لائحة البطريرك في غير المنحى الذي وضعه لها سيد بكركي، وهو أن اللائحة ليست هدفاً في ذاته، بل وسيلة لإتمام الاستحقاق الرئاسي. فأصبح الخلاف على الأخير هو خلاف على اللائحة، مما وضع العراقيل في طريق إمرارها.
على أن تصعيد المواقف في الساعات المنصرمة أوحى هو أيضاً بانهيار الاحتكام إلى لائحة البطريرك.
2 ـــــ رغم المآخذ التي تبادلتها قوى 14 آذار والمعارضة على الاسمين الأبرز في الشق التوافقي من لائحة صفير، أي ترشيحي النائب روبير غانم والوزير السابق ميشال إده، إلا أن الأبواب لم تكن قد أوصدت تماماً في وجه التوصّل إلى اتفاق على أحدهما، وخصوصاً أن التعهّد الذي قطعه بري والحريري للبطريرك الماروني برعاية فرنسية يمنعهما من الخروج على أحد هذين الاسمين، أو إدخال اسم جديد لم يدرجه صفير في متن لائحته. على هذا النحو كان الموقف قاطعاً: الأخذ بأحد الأسماء الواردة في لائحة بكركي أو الذهاب إلى المجهول. لكن تشدّد طرفي التفاوض في فيتواتهما المتبادلة البارحة، أدى إلى إسقاط الاسمين دفعة واحدة وأضحت لائحة البطريرك بلا مرشحين. لا الموالاة تقبل بإده، ولا المعارضة تقبل بغانم، بعدما كان قد أسقط سلفاً الشق «غير التوافقي» في اللائحة، المتعلق بإدراج أسماء العماد ميشال عون والنائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود.
ويبدو من مغزى المواقف التي أطلقها البطريرك أمام نقابة المحررين، أمس، أنه أضحى أقل تعلقاً بلائحته التي لم يكن متحمساً أساساً لوضعها: إما لأن الضمانات التي أعطيت له باحترام الأسماء الواردة فيها قد نُكث بها، ولم تعد اللائحة ملزمة لمن طلبها، وإما لأن الأسماء الواردة فيها أصبحت مشكلة في ذاتها وتواجه استحالة إنقاذ الاستحقاق الرئاسي من الفوضى عبر أحدها.
3 ـــــ تركيز التجاذب السياسي بين قوى 14 آذار والمعارضة على السبل الآيلة إلى التوافق، ونبذ أي تهويل وتهديد باللجوء إلى مخارج مربكة لطرفي التفاوض على السواء، أكانت الفوضى والعصيان أو استخدام نصاب النصف الزائد واحداً لانتخاب الرئيس. وهذا ما عكسه التزام أفرقاء أساسيين لدى الطرفين تخفيف نبرة التخويف تلك. بل ذهب النائب ميشال المر إلى تأكيد مشاركته وستة آخرين من تكتل «التغيير والإصلاح» في جلسة انتخاب الرئيس التوافقي إذا تعذّر الاتفاق على عون، رئيس التكتل، مرشحاً توافقياً، وذلك تفادياً لفراغ دستوري خطير. على النقيض من ذلك، تشبّث عون بترشيحه رداً على جهود بذلها لديه الوزير الفرنسي البارحة لإقناعه بالتخلي عن ترشيحه، فيما يسعى كوشنير في الوقت نفسه إلى تسويق انتخاب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من غير أن يُستشفّ من ذلك إساءة إلى لائحة البطريرك.
على خط مواز لتوجيه الاتهام بعرقلة الاستحقاق الرئاسي إلى عون من جراء تشبثه بترشيحه، لا تبدو قوى 14 آذار أكثر براءة من وضع العقبات في طريق إمراره، إذ تتخذ الموقف ونقيضه في آن واحد: ترفض ترشيح إده في معرض تمسكها بترشيح غانم، وتعلن في الوقت نفسه أنها لا تتحفظ عن أي من الأسماء الواردة في لائحة البطريرك الماروني.