جان عزيز
لسبب ما يبدو ميشال عون هذه الأيام، كأنه شخصية مقدودة من ملحمة إغريقية. أصلاً كل السياق اللبناني الراهن يذكّر بالوضعيات الكورنيللية الشهيرة، مع جدلية القيم، حين تتناقض ظروفها الموضوعية، وتتصارع و«تتلاغى».
ودوامة عون في هذا الإطار جليّة لكل مَن يدقّق في موقفه، وفي المطلوب منه والمعروض عليه.
فمن جهة أولى، هناك في وجدان عون عنصر الحق. ومن جهة ثانية، هناك كون بأكمله يحاول أن يفرض عليه، ويصوّر له، أن ثمّة واجباً عليه مغايراً للحق الوازن.
حق ميشال عون أن يكون رئيساً للجمهورية. وهو حق، قد يستند في ثنايا الشخص الإنساني والطبيعة البشرية، إلى ما يمكن اعتباره طموحاً شخصياً، وبالتالي، حقاً طبيعياً لكل مواطن، خصوصاً إذا كان عاملاً في الشأن العام. ير ى أن هذا الحق، يستند إلى أكثر، وإلى أبعد من الطموح المشروع. لا بل يبدو منبثقاً من 3 عوامل أساسية.
أولاً، إنه الحق وفق المعايير الديموقراطية البسيطة والصحيحة والسويّة. يعترف أحد رؤساء الأحزاب الموالية، بأننا لو كنّا في أي نظام ديموقراطي ليبرالي غربي، لكان من باب تحصيل الحاصل أن يصل عون إلى بعبدا. فهو بحسب كل مقاييس رصد الرأي العام، وسبل تعبير الناس عن حقهم في التعبير والتمثيل، وأطر تجسيد مقولة حكم الشعب للشعب... بحسب ذلك كله، يبدو عون الشخص الممثل لأكثرية شعبية كافية لفوزه ديموقراطياً وسلمياً وحضارياً بموقع سلطة الجمهورية، سلطة خدمة الناس، وجمهورية «الخير العام»، كما تعني إيتمولوجيا الكلمة اليونانية لمفهوم الجمهورية.
ثانياً، إنه الحق وفق فلسفة الكيان اللبناني وجوهر ميثاقه وحقيقة نظامه. ذلك أنه حتى إشعار آخر، لا يزال لبنان قائماً على علّة وجود وحيدة وكافية للوجود في آن، وهي معادلة عيشه المشترك، التي منها وحدها تنبثق شرعية أي سلطة فيه. وفي هذه المعادلة ثمّة جماعة مسيحية مؤسّسة للكيان، شريكة في إدارته، وضامنة، مع سواها، لمصيره. وهي جماعة عانت وضحّت وخسرت وهُزمت وخطّئت وأخطأت وظُلمت وظَلمت. وقد يكون قول الإرشاد الرسولي فيها، من الأكثر دقّة في توصيف وجدانات الجماعات، بأنها مؤلفة من ناس قاتلوا وقُتلوا وتقاتلوا.
لكن، رغم ذلك، أو بسببه، تبدو الجماعة المسيحية اليوم في لبنان، أمام امتحان الوجود أو عدمه، قياساً إلى تجاربها الماضية، كما قياساً إلى تجارب نظرائها في المحيط الأسود، من العراق إلى فلسطين. والجماعة الممتحنة في وجودها بالذات، تتطلع إلى الاستحقاق الرئاسي اليوم، لتتبين ما إذا كانت ستجتاز امتحانها المصيري، أم ستسقط فيه، لتصير من الأمم البائدة والتاركة بقايا أركيولوجية أو معالم «حارات نصارى» تضاف إلى مثيلاتها الكثيرة. والعامل الحاسم في هذا الامتحان، هو في تبيان ما إذا كان المسيحيون قادرين بعد كل ما عانوه، على إيصال مَن يمثّلهم إلى الموقع الدستوري المحفوظ لهم. وما إذا كانوا مؤهلين للرهان على استعادة هذا الحق، ليوقفوا مسار زوالهم التدريجي، أو يستمرون في مأساة النزف والنزع والهزيمة والهجرة. وفي صلب هذا الرهان، يبرز ميشال عون.
ثالثاً، إنه الحق وفق منطق ثقافة السلام والحياة والسماح. فلبنان اليوم، يقف على خط محاذٍ لإعصار عظيم يضرب منطقته، ويقتلع أسس التجمّع البشري السلمي فيها. إنه إعصار الصراع السنّي ـــــ الشيعي، بمعزل عن الخوض في أسبابه، أكانت ذاتية تاريخية أصيلة، أو موضوعية مستجدّة مفتعلة، نتيجة النظام الكوني الذي أرسته روما الجديدة، ومحورية إسرائيل فيه وفي سياستها.
وهو الصراع الذي بدأ منذ سنتين، يذر بقرونه السود في الداخل اللبناني، نزاعاً كليّاً، في السياسة والاقتصاد والديموغرافيا والأمن والوجود، وحتى في شكل الحرب الشاملة كما في 12 تموز من العام الماضي. صراع يهدد كل الوطن، وجماعاته، انطلاقاً من موازين القوى الجديدة، بين الجماعتين السنّية والشيعية في لبنان، بامتداداتها الإقليمية، ووسط التناقضات المتفجّرة والمفجّرة لهذه الامتدادات.
وفي قلب تلك الإرهاصات القائمة، يبرز أيضاً عون، الشخص الوحيد الذي يعلن، أو حتى يزعم إذا ما أراد أخصامه ذلك، أنه يحمل مشروع حل لهذا التناقض، وأنه قادر على التزام هذا الحل، كما على إلزام مَن يجب به. ومعادلة الالتزام والإلزام هذه، تتخطى شخص عون والصراع الآني حول سلاح حزب الله وسلاح الفلسطينيين وسلاح الآخرين المستشري فطرياً على هامشها، ليبلغ في العمق، حد إعادة الدور المسيحي جسر حوار ولُحمة وحاجزاً للتصادم وماصّاً للتجابه بين الآخرين.
وسط هذه الحقوق كلها، يأتي كون كاملٌ، للضغط على ميشال عون، ولإيهام أهله وناسه وحلفائه والأخصام، بأنه إذا لم يقرّر التضحية بتلك الحقوق برمّتها، فسيكون هو المسؤول عن المجهول.
من صلب تلك الصورة تنبلج مشهدية الملحمة الإغريقية المعاصرة. أن يُطلب من شخص أن يطيح الحق الديموقراطي، وأن يُجهز على الحق الميثاقي الشراكي، وأن يقضي على الحق الوطني الإنساني الحواري، لقاء ماذا؟ لقاء رئيس هو المجهول بعينه، وهو مَن يعني مجرّد وصوله أن لا مكان للديموقراطية في لبنان، ولا فسحة للشراكة المسيحية في توازنه، ولا فرصة لخيار ثالث يحول دون تمدّد أتون المنطقة إلى بيروت.
أمس دعا عون كل المعنيين بهذه الحقوق المتداعية، للبحث في ما يمكن اجتراحه. لكن أيّاً كانت الردود، يظل ثابتاً أن لا أحد يملك الحق الأزلي ولا الأخلاقي ولا السياسي ولا الوطني أو الإنساني، لمطالبة عون بأن يحوّل ملحمته الإغريقية الشخصية، تراجيديا لبنانية للديموقراطية وللمسيحيين ولكل الوطن.