جيزيل خلف
ينخفض عدد أفراد الأسرة اللبنانية بشكل مطّرد، وتكشف نتائج دراسة تعود إلى عام 2004-2005 تراجعاً في متوسط حجم الأسرة من 4.8 أفراد عام 1997 إلى 4.3 أفراد عام 2004. ما هي الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت إلى هذا التغيير؟
على مائدة الطعام لا يتّسع المكان ليجلس الجميع، وكلمة «ماما» تسمع بأكثر من صوت في آن. ضجيج وأحاديث متداخلة والوجبة لا تكتمل إلا بربطتين من الخبز.
هذا الجو العام للعائلات اللبنانية الذي كان سائداً قبل عشر سنوات، على الأقلّ، يندر وجوده في هذه الأيام، بل يحلّ مكانه الهدوء بعدما سادت العقلية الرافضة لنموذج «العائلة الكبيرة».
ورغم هذا التغيير، لا تزال الآراء مختلفة بهذا الشأن. ففيما لا تواجه هدى (58 عاماً) وهي أم لخمسة أولاد مشكلة في حجم العائلة، وخصوصاً أنها نشأت في عائلة من تسعة أفراد، ترى فاطمة ترحيني، وهي طالبة جامعية تعيش ضمن عائلة مؤلفة من ثمانية أفراد، أن «العائلة الكبيرة جميلة، لكن الأسرة الصغيرة تؤمّن راحة نفسية أكبر لأفرادها».
هذان الرأيان يختصران نظرة جيلين إلى العائلة... وتروي كبيرات السن من النساء كيف كان الوضع سابقاً.
لا تنسى أم وليد الأيام الأولى من زواجها، حين بدأت تسمع السؤال: «شو، في شي على الطريق؟». لم يقتصر الأمر على السؤال، فالعروس المسكينة، ابنة الثلاثة عشر عاماً، وجدت نفسها بعد شهر واحد فقط في مواجهة حماتها تسخر منها: «إذا بطة إجري بتحبل إنتي بيطلع من أمرك شي... وبعد أسبوعين تبيّن أني حامل». أم وليد الآن امرأة تسعينية، وهي أم لعشرة أولاد أحياء يرزقون وقد نسيت عدد من أُجهضوا، أمّا أبناء أم وليد وبناتها فمن حقق رقماً قياسياً منهم لم يتعدّ عدد أولاده الخمسة. ومن يدري كم سيكون عدد أولاد الجيل الثالث في العائلة؟

ضعف الوعي

تعيد أحلام (48 عاماً)، وهي أخت لثمانية أفراد وأم لأربعة أولاد، سبب تقلص حجم الأسرة إلى ضعف مستوى الوعي سابقاً مقارنة بالوضع الحالي، وترى أن «مفهوم القناعة كان السيّد سابقاً، فغرفتان صغيرتان تكفيان لسكن أسرة مهما كان عدد أفرادها». أحلام تتعالى عن مشاكلها المادية وتقنع نفسها بعبارة «كماليات العقود الماضية أصبحت مستلزمات الحاضر». لكنْ لفاتن (27 عاماً)، وهي أم لابنة وحيدة أنجبتها بعد انتظار دام ثلاث سنوات، رأي آخر، فهي تعلل مبتسمةً بأن «التلفاز لم يكن موجوداً في السابق وكانت الحاجة إلى التسلية ملحّة». فاتن تتحدث عن الكبت الذي كان منطق الأجيال السابقة «الذي يجعل الزوجين بعيدين كل البعد عما يقدّمه الطب الذي لا تستفيد من خدماته سوى القلة الميسورة، فضلاً عن أولوية الرأي الديني الرافض».
وفيما أتت فاتن على شرح الواقع السابق، تبنّى عماد، وهو أب لطفلين، تفسير الحاضر النقيض، فـ«الآن تؤدّي وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع الأهلي دوراً كبيراً في التوعية لدرجة أنها تخطت الحد المطلوب».
آراء أخرى تبرز في هذا الإطار طارحة أسباباً مختلفة مرتبطة بالعادات والتقاليد. تنقل سمر، وهي أم لفتاتين، عن والدتها التي أنجبت أحد عشر ابناً وابنة، عبارة «الولد يبجي وبتجي رزقته معه» التي تسمعها على لسان من أنجبن عدداً كبيراً من الأطفال، وتقول: «هذا تفكير خاطئ، فولدان متعلمان وصالحان أفضل من عشرة يحضنهم الشارع». وفي الإطار نفسه، ترى نسرين، وهي الابنة الكبرى في عائلة تتألف من ثمانية أفراد، صغيرها الصبي الذي طال انتظاره، أنه «وبحجة أن الصبي يحمل اسم والده يبدأ المشروع وينتهي بعدد لا بأس به من البنات ليأتي ولي العهد».
هذا بالنسبة إلى أثر الثقافة المترسخة والمعتقدات التي تسيطر على حياتنا اليومية، أمّا عن دور الدين، فتقول رنة (24 عاماً) وهي تلميذة جامعية: «عائلاتنا نحن المسلمين عادة ما تنجب وذلك وفقاً للحديث القائل: تناكحوا وتكاثروا وإني مباه بكم بين الأمم». وتلحظ رنة تحريم وسائل منع الحمل وتحريم قتل النفس وبالتالي الإجهاض، ليزداد عدد الأفراد في الأسرة الواحدة». وتروي فاطمة عن عمتها التي أنجبت ستة عشر ولداً، من تعلم منهم وبالغ في تحصيله العلمي أتمّ المرحلة الابتدائية!

المرأة العاملة

بعد الأوضاع المعيشية المزرية والثقافات المتوارثة وأثر الدين، يأتي وضع المرأة الحالي كسبب إضافي لتغيّر ملامح الأسرة.
تستبعد ديانا جوهر (24 عاماً)، وهي أم لولدين، فكرة الإنجاب مجدداً، فهي تعمل في شركة خاصة وتمضي أغلب ساعات النهار خارج المنزل: «ولدَين ومش ملحقة، الأولاد مطيشرين شي عند إميّ شي عند حماتي وأنا بحاجة إلى عملي هذا».
هكذا روى الناس قصة أسرة اليوم انطلاقاً من تجاربهم، لكن للأرقام صدقيتها في تصوير واقع العائلة الجديد.
فقد أظهرت نتائج الدراسة الوطنية للأحوال المعيشية للأسر لعام 2004-2005 تراجعاً في متوسط حجم الأسرة من 4.8 أفراد عام 1997 إلى 4.3 أفراد عام 2004 مع تباين بين المناطق حدّه الأدنى 3.9 أفراد في بيروت، وحدّه الأقصى 4.9 أفراد في الشمال.
وعن أحجام الأسر تشير النتائج الإحصائية للدراسة إلى أن معظم الأسر تتكون من أربعة أفراد (بنسبة 19.7%) أو خمسة أفراد (بنسبة 18.5%)، بينما تبلغ نسبة الأسر المكوّنة من سبعة أفراد وأكثر 12.6%، وتبلغ نسبة الأسر المكوّنة من فرد واحد 7.3%.
هذا ما يكشفه الدكتور في علم الاجتماع زهير حطب، لافتاً الى أن «التحولات اللاحقة بالأسرة في مجتمعنا اللبناني والمجتمعات العربية تنحصر ببعض الأشكال والمظاهر الخارجية، أوّلها ما يصيب حجم الأسرة». ويلاحظ حطب التقسيم المناطقي لأشكال الأسر الذي «غالباً ما يتخذ طابعاً طائفياً، فتتميز كل طائفة بسمة ترافق الوظيفة البيولوجية لأسرها على المستوى الظاهري فقط»، أمّا على المستوى الفعلي، فتُرجع خلفيات الواقع إلى عدة معايير أولها «سطوة التوجيه الديني والتعبئة الدينية التي تتخذ في الأسرة ثلاثة أشكال أحدها متطرّف في تمسكه بالتوجيهات الإلهية إلى درجة يستحيل معها عالم الأسرة مؤسسة دينية تغلق الأبواب والنوافذ على كل هواء أو ريح يُستشم أنه يحمل ريح التجديد أو الغرب. والشكل الثاني يظهر على الأسرة المتفلتة من كلّ قيد أو توجيه، تابعة للقرية الكونية وما يجري فيها من سلوكيات منمطة وقيم منفلشة تفسح مجالاً رحباً للفردانية في أن تنتشر على أوسع مساحة ممكنة. أما الشكل الثالث، فهو الأسرة المنضبطة بمصالحها الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية التي يتسع فيها تأثير الدين أو يضيق تبعاً لحاجة الوسط الاجتماعي في أن تظهر متدينة أو غير متدينة».
ويؤكد حطب أن العلاقة بالدين ونمط الاستجابة إلى نظمه وما يعمّمه رجال الدين من ثقافة دينية هو سمة مشتركة بين أنماط الأسر «فلا يمكننا في لبنان أو العالم العربي والإسلامي حالياً أن نقلّل من شأن تأثير الدين المباشر على العلاقات بين عناصر الأسرة أو بين نظم القيم التي توجه سلوكهم». ويشرح في معرض حديثه «كيف أن الأجيال الشابّة تبدو أسيرة التجاذب بين التهرّب من الالتزام الكامل بالضوابط الدينية في ما يخص عالم أحوالهم الشخصية، وبين انضباطهم التبعي لروحيّة مشاعر التعصب الطائفي التي تُفضي إليها المبالغة في التبعية الدينية ونشر الثقافة الدينية للأحوال المجتمعية».
ويرى حطب أن تحقيق انتفاضة كبرى على الأسرة بشكلها وتقسيمها الوظائفي القديم وبالتالي بروز نمط جديد مختلف في الشكل والمضمون جعل إنجاب الأطفال مشروعاً مشتركاً بين الرجل والمرأة، ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك، «الإقبال على التعليم وإطالة فترة الجلوس على مقاعد الدراسة وبالتالي دخول المرأة سوق العمل الذي أزاح الرجل عن الكثير من مجالاته»، يُضاف «ما تؤديه صرخات المساواة المدّوية لجهة تفعيل دور المرأة في مختلف المجالات العملية منها والاجتماعية».
وعن التغيّر النمطي المتصل بخصائص الزواج الحالي لَحَظَ حطب إشارات مهمة «أولاها تراجع عمر الشاب عند الزواج إلى 31.9 سنة وعند الفتيات إلى 29.8 سنة، وثانيتها الإشارة المتمثلة بازدياد تخّلي الأسرة عن دور الرعاية بالنسبة إلى كبار السن وحصر اهتمامهم بالأطفال، فالأطفال هم الملوك في أسرهم لا بل الآمر الناهي، وثالثتها إشارة أخرى تُظهر تحوّلات جليّة في الأسرة تتمثل بتضاعف نسبة الإناث اللواتي يساهمن في ميزانية الأسرة».
ويركز حطب على سمة الأسرة الحديثة الأهمّ «المتمثلة في كونها أكثر تبعية والتحاقاً بما هو خارجها سواء على مستوى القيم والسلوكيات أو تتبّع الموضة وقضاء وقت الفراغ وامتلاك سلّم أولويات بالاهتمامات الراهنة»، لافتاً إلى قضية انحلال قيم التفكير والنقد لدى الأسرة «لكونها تستمد تفاصيل حياتها جميعها من مراجع تمنحها إياها جاهزة وتعفيها من اتخاذ موقف شخصي يعبر عن المصالح الحقيقية لها لا عن المصالح المتخيلة للأسرة المعولمة».



شفيقة التسعينية: ليتني أنجب بعد

«ليتني أستطيع أن أُنجب...». عبارة تكررها شفيقة. الأمنية جميلة، ولكن إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع. شفيقة امرأة في التسعين من عمرها، أنجبت عشرة أولاد ولا تزال نظراتها تمتزج بالحسرة كلما قُلّبت مواجعها بولادة لإحدى نساء الحي التي إذا ما زارتها مهنّئة تمتمت مرات عديدة «نيالك»، وعندما تُسأل عن السبب ترد العجوز الشابّة وبنبرة مفعمة بالثقة، «ولو! يتغيّر دم المرأة مع كل ولادة ما يؤمن لها الشفاء من كل الأمراض». تضيف: «أنا الآن نطيّت عن التسعين ويا ليتني قادرة على الإنجاب»، وبلغّة طبية تحليلية تكمل شفيقة «الضغط والتكلس والنشاف كلو بروح».
تؤمن شفيقة أنه مع كلّ ولادة حياة جديدة للأم والطفل على حد سواء، وفيما تقلّب صفحات ذاكرتها لتصف ولاداتها العشر، تقف عند سطور ممحية وتقرأ أخرى بصوت جهوريّ فيه من الفرح والأسى وتقول متباهية: «نساء زماننا يختلفن عن نساء اليوم، لو خلفوا ليشيبوا متلنا ما بجيبوا»، و«المرأة كانت تنجب عشرة أطفال وتحني رأسها، اليوم تنجب ولدين وتظن بنفسها صاحبة الإنجاز العظيم».
ولشفيقة نصائح في هذا المجال تقدمها متى سنحت الفرصة، أهمها أن الإنجاب هو الدور الأساسي التي تضطلع به المرأة، والأمومة هي رسالتها الأولى وعليها أن تحيا بها متى استطاعت. عندما تُراشق آراؤها بحصى اللوم، تهز شفيقة برأسها وتجول عيناها كأنها تبحث عن بقايا الزمن الذي عاشته لعلّها تجد من يفهمها ويشاركها فلسفتها. وفي آخر كل جدال يدركها الصمت فهي تعبت من الكلام.