نقولا ناصيف
أضحت الساعات القليلة الفاصلة عن انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، في الجلسة الخامسة غداً، أثقل من انتخابات الرئاسة نفسها. تلاحقت الشائعات والاجتماعات، وكذلك الأخبار، عن تقلّب المواقع والتحالفات تارة، والخروج من لائحة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير ثم الدخول إليها مجدداً من نافذة أخرى طوراً، فضلاً عن انهيار حظوظ وصول الوزير السابق ميشال إده إلى الرئاسة مرشحاً توافقياً، وترجيح كفة تعطيل جلسة الانتخاب ودخول البلاد في فراغ دستوري حتمي. لكن هذه المعطيات ظلت أسيرة التكهنات، وضوابط قد يكون أبرزها:
1 ــــ إصرار فرنسا على إنجاح مبادرتها من خلال المهمة المكوكية لوزير الخارجية برنار كوشنير بين الأفرقاء اللبنانيين، من غير أن يفقد الأمل في نجاحها. ولأنها ليست وساطة عابرة تستسلم للفشل وتستطيع في أي لحظة أن تدير ظهرها لما يجري في لبنان وتغادر، تقارب باريس مبادرتها هذه على أساس أنها امتحان محافظتها على نفوذها في لبنان، الذي كانت قد استعادته بفاعلية عبر سفيرها السابق برنار إيمييه في ضوء سلسلة طويلة من الانهيارات التي قوّضت الإدارة السورية للوضع الداخلي وتوازناته مذ اغتيل الرئيس رفيق الحريري. دور كهذا غالباً ما نظرت إليه باريس كموطىء قدم لها في الشرق الأوسط. وهي لم ترَ، على مرّ العلاقات الفرنسية ــــــ السورية، أن في وسعها الاستعاضة عن موقعها في لبنان بآخر في سوريا، إلا أنها لم تشأ كذلك الاكتفاء بإرساء علاقة متينة بلبنان دون سوريا.
وفي واقع الأمر، لم يُوفّق اختبار العلاقات الفرنسية ـــــ السورية إلى بناء تفاهم بين البلدين بمعزل عن لبنان مذ حاولت باريس، بخفر متردد، العودة الجدية إلى هذا البلد في حزيران 1976 في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان الذي سلّم على مضض بانتشار الجيش السوري في لبنان، و«اقتنع» بوجهة نظر الرئيس السوري حافظ الأسد في لقائهما في 16 حزيران. وكما كانت بداية، كانت خاتمة المرحلة الطويلة هذه، في شباط 2005، عندما تخلى الرئيس جاك شيراك عن دعمه لوجود سوريا في لبنان وأصرّ على التطبيق الفوري للقرار 1559 بإخراج الجيش السوري منه، ممّا أدى إلى نصف قطيعة في العلاقات الفرنسية ـــــ السورية. انقطع الاتصال بين رئيسي البلدين وحكومتيهما، وثابرت السفارتان على حدّ أدنى من العلاقات الباردة.
ووفق هذه المعادلة قرن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إعادة الحرارة إلى علاقة باريس بدمشق بتخلي الأخيرة عن تدخلها في الشؤون اللبنانية. لم يقف عند حدود هذا التحذير، بل أعاد صوغه بإيجابية أفضل، وأقل تهديداً، يحبّذها الرئيس بشار الأسد، بأن أوفد إليه الأمين العام للرئاسة كلود غيان يوم 4 تشرين الثاني ثم الثلثاء الفائت (20 تشرين الثاني)، وبعد لقاء كوشنير بنظيره السوري وليد المعلم في اسطنبول مطلع هذا الشهر، ثم اتصاله به عشية عودته إلى بيروت الأحد الفائت، أجرى ساركوزي مكالمة هاتفية بالأسد يوم الثلثاء. وهكذا عاد الحوار الفرنسي ـــــ السوري من خلال لبنان. وخلافاً لشيراك، آخر أبناء الديغولية، عكست مناداة ساركوزي ووزير خارجيته بانتخاب رئيس توافقي، والتخلي عن مغامرة انتخاب رئيس بنصاب النصف الزائد واحداً لا تشارك فيه المعارضة ولا طائفة لبنانية كبرى، عودة باريس إلى الفكرة التقليدية التي لا تزال تحفظها عن لبنان. لم يتغيّر الكثير فيه، ما خلا أبطال اللعبة ذاتها التي تدور على نفسها.
2 ــــ لا يعدو الاهتمام الفرنسي بالاستحقاق الرئاسي اللبناني لكونه استمراراً، أكثر تعقلاً وتوازناً، لدور باريس في الانتخابات النيابية عام 2005. ورغم أن هذه كانت في عهدة عرّاب واحد هو تيري رود لارسن، المكلف مراقبة تطبيق القرار 1559، لم تكن لتنتهي تلك الانتخابات بنتائجها التي منحت قوى 14 آذار غالبية نيابية لولا التحالف الرباعي الذي جمع أركان التسوية تلك، وهم الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط وحزب الله وسعد الحريري. وعلى أهمية الدعم الدولي، الأميركي والفرنسي خصوصاً من خلال السفيرين الجديدين حينذاك جيفري فيلتمان وبرنار إيمييه، فضلاً عن إصرار رود لارسن على 29 أيار موعداً نهائياً لإجراء أولى دورات الانتخابات، فإن هذه لم تكن لتحصل لولا التحالف الرباعي الذي راح يستعيده كوشنير بغية إجراء الاستحقاق الرئاسي، مضيفاً إليه عاملاً فاعلاً ورئيسياً هو خامس تلك القوى، العماد ميشال عون. وحيث نجح أفرقاء التحالف الرباعي في انتخابات 2005 في إقصاء عون عن أي موقع في توازن القوى السياسي الذي ترتب على نتائج الانتخابات، أضحى في الاستحقاق الرئاسي، بعد انهيار التحالف الرباعي، قوة أساسية لتقرير مصير الاستحقاق مرشحاً أو ناخباً. وهكذا، على غرار انتخابات 2005، يتضافر العاملان الداخلي والخارجي في انتخابات 2007.
3 ــــ رغم إصرار المجتمع الدولي، وواشنطن وباريس، على تطبيق الشق المتعلق بانتخابات الرئاسة اللبنانية في القرار 1559، وخصوصاً لجهة إجرائها بلا تدخّل خارجي، أعطت حركة الدبلوماسية الفرنسية حيال دمشق وطهران برهاناً إضافياً على حجم التدخل الخارجي في الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وعلى نقيض لهجتها في الأشهر المنصرمة حيال دمشق وتأثيرها في هذا الاستحقاق، بدأت باريس في الأسابيع الاخيرة أكثر واقعية في تفهّم المصالح السورية في لبنان، ومناقشة دمشق في سبل إجراء الاستحقاق الرئاسي اللبناني تفادياً للفوضى، من غير أن يتهدّد الاستحقاق تلك المصالح. بل بات على باريس، في الظاهر على الأقل، أن تبرهن لسوريا أنها لا تريد المجيء برئيس يناصبها العداء، عوض أن تبرهن دمشق لباريس سلفاً أنها لا تريد التدخّل في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. وهكذا أضحى في الحسابات الثنائية الفرنسية ـــــ السورية انتخاب رئيس توافقي للبنان في منزلة التوافق اللبناني ـــــ اللبناني الذي يتطلّبه الاستقرار الداخلي.