إبراهيم الأمين
هل تقف المعارضة مرة جديدة أمام حائط السرايا الكبيرة؟
السؤال مردّه إلى السلوك القائم منذ أسبوعين أو ثلاثة حتى الآن، وثمة خشية جدية من أن تقع المعارضة من جديد في فخ «التهدئة السلبية» التي تريدها الولايات المتحدة الأميركية، والتي تقود عملياً إلى حماية فريقها اللبناني ومنع المعارضة من نقل النقاش الى مستوى ما بعد نتائج حرب تموز الماضية. وإذا كان الفريق اللبناني العامل ضمن المشروع الأميركي قد نجح في احتواء رد الفعل من جانب تيار المقاومة في لبنان ومن جانب القوى التي احتضنت المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، فقد أدّى الأمر الى بلبلة في جانب المعارضة تم إخفاؤها بعنوان الهروب من الفتنة الطائفية والمذهبية، ما أتاح لفريق 14 آذار أن يستظل أكثر بالدعم الخارجي ومكّن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة من البقاء متجاهلة كل موجة الاعتراض الشعبي والسياسي التي يقودها أكثر من نصف اللبنانيين.
ومنذ اندلاع الأزمة الرئاسية، تورّط فريق 14 آذار بقيادة كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري في لعبة الرهان على نقل التوازن الخارجي الكبير إلى الوضع الداخلي، وتورّطوا حتى الحد الأقصى في لعبة رهانات على ضغوط خارجية أميركية وحتى إسرائيلية على سوريا وإيران وعلى القوى المعارضة في لبنان، بغية إطاحة كل المفاعيل الإيجابية لصمود المقاومة وانتصارها من جهة، وبغية شنّ هجوم مضاد أساسه التهويل على المعارضة بأن شرط التقدم نحو مكاسب في السلطة سوف يكون على حساب الوحدة الوطنية، وتواصل لعبة الابتزاز مع المعارضة ولا سيما مع طرفيها الأساسيين حزب الله والتيار الوطني الحر، الأول بالقول له إن شرط التقدم هو فتنة سنية ــــــ شيعية، والقول للآخر إن شرط التقدم هو فتنة مسيحية ـــــ مسيحية والخضوع لنظام العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على كل من يخالف المشروع الأميركي في المنطقة.
وإزاء صعوبة تحقيق نجاحات حقيقية من جانب المشروع الأميركي وملحقاته اللبنانية، بدأ الفريق اللبناني يهتم أكثر بتكريس الأمر الواقع الذي يقول إن السلطة الفعلية في لبنان هي لفريق 14 آذار والحكومة التابعة له، مع رفع منسوب النشاط الأمني والسياسي والاقتصادي لهذا لفريق في كل لبنان. كان لا بد من إنتاج صيغة سمّيت التوافق، وجرى التهويل من جانب هذا الفريق باللجوء الى النصف +1 لأجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكان الجميع يدرك أن الأمر سوف يؤدي الى انهيار كبير في لبنان يصيب الدولة بكل مؤسساتها. وكان السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان يتولّى رفع معنويات الفريق الحاكم من خلال جرعات دعم كبيرة من الخارج، وكذلك بالقول إن المعارضة لا تقدر على إنتاج وضع ميداني مختلف وإن موازين القوى ليست لمصلحتها.
ما حصل خلال الفترة الماضية، كان تركيزاً إضافياً من جانب فريق 14 آذار على كيفية نقل الأزمة إلى فريق المعارضة، وذلك بجعل مطلب الحوار والتوافق مدخلاً إلى نقاش خلافي، وجرى العمل بقوة على تحييد الرئيس نبيه بري من خلال دفعه الى التزام موجبات حوارية من النوع الذي يخفض سقف طموحات المعارضة ومطالبها، وتقليص هوامش المناورة أمامها، وكانت الخسارة الأولى لفريق المعارضة هي فكرة قيام حكومة ثانية تفرض على الآخرين الذهاب سريعاً إلى تسوية حقيقية لا تسوية شكلية، وكذلك فرض المعركة وفق توقيت فريق 14 آذار وحساباته.
ومنذ توقّف المعتصمين عند أبواب السرايا الكبيرة، بدا الارتباك في صفوف المعارضة لناحية عدم وضوح الخطوة التالية، وهي حالها اليوم، إذ إن ما قررته المعارضة قبل نحو عشرة أيام، كان واضحاً لناحية الآتي:
أوّلاً: أن لجوء فريق السلطة إلى انتخاب رئيس من طرف واحد سوف يردّ عليه بقسوة مهما كلف الأمر، والعمل على نزع السلطة من يد الفريق الآخر.
الثاني: التعامل مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على أساس أنها حكومة مغتصبة للسلطة، وهو ما يوجب مقاومتها بكل الوسائل حتى إسقاطها إسقاطاً كاملاً.
الثالث: الإقرار بأن المواجهة في الشارع تستدعي أموراً كثيرة ليست حسنة، لكنّ البقاء في دائرة الانتظار يتيح للطرف الآخر ربط الملف برمّته بتطورات سلبية تجري من حولنا.
وبناءً على ذلك، باشرت المعارضة سلسلة من الخطوات كان عنوانها ما ورد في خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه بمناسبة «يوم الشهيد». وهو أمر تطوّر في اليوم التالي مع الكلام الواضح الذي أطلقه العماد ميشال عون عبر تلفزيون «المنار» وجعل فريق السلطة يشعر بأن الأمور لم تعد كما يرسمها السفير فيلتمان طوال الوقت. حتى شعر الأقطاب في هذه المجموعة بأن الأمور تسير باتجاه لعبة ليست من النوع التقليدي، فاضطر هؤلاء الى إعادة النظر في تكتيكات كثيرة. فكان «التبدّل الكلامي» في خطاب جنبلاط ومبادرته إلى خطوات معلنة وغير معلنة يريد منها القول إنه مستعد للتراجع عن كثير من المواقف التي أطلقها سابقاً. وقد جاءت خطوات جنبلاط في سياق واضح عبّر عنه أحد المقرّبين منه بقسوة «لقد أحس بالخطر في عقر داره»، وهو الذي يدرك بحاسة الشم والسمع أو لفت النظر أن الأميركيين ليسوا على شاطئ الدامور لنجدته وبقية قواه، وأن إسرائيل ليست جاهزة لمعركة من النوع الذي يربك الآخر ويجعله في موقع تراجعي. كما أدرك وفق حسابات السمع والبصر أن بمقدور الطرف الآخر مواجهته في عقر داره ومن بني جلدته وبالطريقة التي لا تجبر المعارضة على خوض معركة مماثلة مع السنة أو بقية اللبنانيين، وبالتالي فإن جنبلاط شعر بقوة لا سابق لها بأنه سوف يكون الولد الذي يضرب بقسوة لمعاقبة بقية أترابه. ولأن جنبلاط لا يخشى المساءلة أو ما شابهها، ولإدراكه أن الأمور أصعب من كل «الهوبرة» التي يتولّاها منذ زمن بعيد، وجد أن أمامه طرقاً عدة لكن الأقرب منها إلى حفظه هو البحث عن وسيلة للحفظ، وهو في هذه الحالة لا يهتم بأن يخضع لمساءلة من أحد عن سبب أيّ تبدّل في مواقفه. وبالتالي، فهو دخل في مناورة من النوع الذي يعني أمراً واحداً: إذا كانت ظروفنا الحالية لا تسمح لنا بفرض وقائع على الطرف الآخر، فلماذا نترك للآخرين خوض مواجهة وسلبنا ما لدينا من مكاسب. وبالتالي، فإن فكرة شراء الوقت سوف تدفع المعارضة إلى خيارات غير عادية، وليس أمامها الوقت الطويل للحسم على مستوى هذه الخيارات قبل اللجوء إلى ما يجب اللجوء إليه في معرض تصحيح الوضع في لبنان على مستوى السلطة والإدارة والتوجّه السياسي الخارجي.
هل تقع المعارضة مرة جديدة في فخ اسمه الحالي «الفراغ الهادئ».. ثمة ما يدعو إلى القلق؟