strong>كامل جابر
• «ولدتُ فناناً وطوّرتُ حرفتي 300 في المئة»

ورث سمير الحدّاد حرفة صناعة السكاكين أباً عن جدّ، وطوّرها حتى بات عميدها. الرجل الذي باع السكين الأولى في سن الثامنة، يفاخر بأنه طوّر مهنته ولم يجد يوماً منافساً جدياً له، أو عاملاً، من أصل 150 تتلمذوا على يديه، قادراً على اكتشاف سرّ المهنة

تدلّ الزخارف الحديدية التي تزيّن شرفات منزل سمير الحدّاد في جزين، على فنّ حرفيّ يميّز هذا المنزل القابع قرب الشارع العام، عند زاوية المدينة الجنوبية الشرقية. فنّ يحكي سيرة صاحبه، عميد الحرفة الجزينية الأشهر (صناعة السكاكين) وصاحب أفكار تطويرها.
ورث سمير المهنة ـــــ الحرفة عن والده سعيد، الذي ورثها بدوره عن والده ألفريد، والأخير عن والده حبيب، فجبور وصولاً إلى جدّ الجدّ حبيب الحداد. وهو يعتزّ بأنه طوّر الحرفة «300 في المئة، تسلّمتها بدائية ناشفة، وأدخلت عليها الأناقة والذوق والفن والعطاء والتقدّم حتى حاكيت بها أوروبا».

الإبداع الأول

يذكر سمير جيداً يوماً من أيام الحرب العالمية الثانية، حين هوت طائرة حربية في وادي جزين تحت الشلال. «كنا هنا في القبو، خائفين من الرصاص والمعمعة. أتت طيارة وراحت «تسطح» بالجيش الفرنسي وتقتل من عناصره قبل أن ينجحوا في إصابتها وإسقاطها في الوادي. كنت أوّل من وصل لتحت، بعدما هدأ القصف قليلاً. تأملت الطائرة من مختلف جوانبها، وأنا ابن ثماني سنوات، في اليوم الثاني عاودت النزول إلى الوادي، وأحضرت قطعألومينيوم منها، وبدأت أفكك معداتها. في الثالث بدأت بالمحرك والزجاج، أفكك وأسحب حتى تمكنت من فك كل «جهازها الهضمي»، ولما عجزت عن بعض الدواليب المسنّنة أخذت «ملزمة» والدي مع «القطمة» التي يرقق بها لأنها تكمش جيداً، فآنذاك لم تكن المفاتيح والمفكات متوافرة». لم تمرّ القضية بسلام عند والده: «قرطني بدن ووبخني سائلاً ماذا كنت سأفعل لو انفجرت الطائرة؟». لكنه يتذكر أنه صنع من زجاج الطائرة سكيناً فيها 3 شفرات ومبرد أظافر. واستعان بالمعلم هاروتين بيرنيه للحصول على مادة «اللصق» ليعطي للشفرة سماكة، وكانت في حينه من «الآسيتون» وقد «بعت السبتيّة (السكين) لمسز آيكنز بخمسين ليرة في حينه، علماً أني بكيت عندما بعتها».
مرة ثانية بكى سمير الحداد، عندما أُرغم على التخلي عن غرفة التصنيع الخاصة به وحده في البيت، بعد عملية في القلب، وكان رأي الطبيب أن يخفف من الجهد. غير أنه عاد للعمل شيئاً فشيئاً، جاعلاً محترفه الخاص في الغرفة الشرقية من البيت، بينما المعمل الكبير في الطبقة السفلية حيث تجري ورش التنفيذ بإشرافه ورعايته.
يعمل الحدّاد في غرف بيته وعلى السطح وفي الطبقة السفلى. «علّمتنا تركيا ألا نفتح معامل واسعة، ويبدو أن سنوات حكمها لنا لا تزال تؤثّر فينا». يضيف سبباً آخر لجعل معمله في بيته «لأنني أردت الإحاطة بكلّ شغلي وأن يبقى كلّ شيء تحت إشرافي ونظري. إضافة إلى أني قد أستيقظ ليلاً لأنفّذ فكرة خطرت لي».
وهو يرى أن الحرفة «مثل الكباش»، رغم ذلك فهو لم يخف يوماً من منافسة معلّم أو عامل «عمل تحت يدي نحو 150 معلّماً وعاملاً، لم يلتقط أحد منهم التقنية التي كنت أرغب أو أراه يبتكر ويبدع فيها». ثم يستدرك: «حتى لا أغالي، خفت مرة من أنيس بولس الحداد الذي أتى من فلسطين عام 1955 ووجدت فيه فناناً خلاقاً وموهبة، بيد أنه ترك المصلحة وراح يعمل نجاراًلم ينتظر عميد الحرفة المعدات الصناعية المتطورة لينتج أعمالاً مميزة «بدأت أخترع آلات وماكينات صناعية متطورة بعدما عجزت عن الحصول على أيد ماهرة. فطورت آلات تعطي نتائج أكثر من الإنسان، ولذلك لم أخترع جهازاً أو آلة لتطوير المهنة إلا كانت النتائج أفضل مما كنت متوقعاً. وكنت أرمي كلّ ما لا يستطيع التفوّق على مهارة الإنسان حتى لو كانت تكلفته عالية أو قد يكون أخذ وقتاً كبيراً من السهر والجهد والتفكير». ويشرح مثلاً أن «المبرد الذي أشتغل به، صنعته على ذوقي، بما أريده منه لا بما يقدر على شغله، جعلته تكنولوجيا لا تخطئ، لا تتلف وتدوم طويلاً، وبذلك ضاهيت الصناعة الأوروبية».
لم يضع الحداد تصميماً وتدويناً لكل ما نفذ من مقابض أدوات المطبخ والمكتب وغيرها، مع العلم أنه كان يهوى الرسم منذ صغره.
وإذ يفتخر سمير الحداد ويتباهى بما يبدعه، فإنه عاتب على بعض المرجعيات المحلية في جزين «ليس من أجل النقود، بل من أجل احترام الفنّ، فمثلاً عندما ترغب هيئة ما، على نحو البلدية، في أن تقدم الهدايا، تشتري مني ومن غيري، مسايرة. تقهرني هذه المقارنة علماً أن الفرق بين عملي وعمل غيري يوازي الفرق بين الأرض والسماء، وهذا باعتراف الجميع. إذا سألت عن الصناعة المميزة، يدلّك الكل إلى سمير الحداد ومصنعه. عندي ممنوع أن يشتغل أحد في الحرفة إذا لم يكن من العمال المهرة، لكن يهمني ألا تكون بعض الصناعات في جزين كمن يتطاول على المهنة، على طريقة هات إيدك والحقني، هذه كارثة».

«سيف ذو الفقار»

السيف الذي صنعه سمير من فولاذ وذهب وعاج وعظم ملوّن، وأطلق عليه اسم «ذو الفقار» (اسم سيف الإمام علي بن أبي طالبحديث مدينة جزين والصحافة. جعل طوله متراً ونيفاً وعرض قبضته نحو عشرين سنتيمتراً ووزنه خمسة كيلوغرامات. ومن يقف قبالة السيف يقدر أن يرى وجهه من دون تموجات أو اعوجاج في الصورة. كذلك جعل قبضته خليطاً من الفولاذ المطعم بالذهب والعاج والعظم الأحمر، وهو من اختراع الحداد. أما طائر القبضة فأتقن الحداد رسم العين «مئة عين رسمت حتى ضحكت لعين».
استمرّ العمل فيه نحو ستة أشهر، بأيام متقطعة، وخلال أوقات «الرواق» والاستماع والطرب إلى صوت «أم كلثوم»، وعندما شعر عميد الحرفيين الجزينيين بأن انسياب السيف أتى خفيفاً قرر أن يجعل سماكته مضاعفة. أما مبلغ الشراء الأول الذي عرض ثمناً للسيف، فقد بلغ خمسة وعشرين ألف دولار أميركي «كان يمكن أن أقبض ثمنه 25 ألف دولار وأضعها في جيبي لكن كان هذا يعني أيضاً أن يغيب السيف عن عيني. غيري ليس أولى مني في الاستمتاع بروعته، لذلك احتفظت به لنفسي ولعائلتي من بعدي».
لسمير الحداد 3 بنات وصبي هم: غريس، غيلدا، بليندا وأصغرهم أنطوان. أما زوجته فلا يتوقف كلام الغزل والحب فيها «خوتتني فتزوجتها، والعين التي ترى الجمال تعشقه، وقد مثّلت عامل إلهام للكثير من التحف والقطع الفنية التي أنتجتها أو أبدعتها».
يحلم الحداد أن يحافظ أولاده على التقنية عينها التي وصل إليها، وكذلك أن يمارس أحفاده المهنة ذاتها بحرفيتها وجودتها «لا وسط عندي فيها، أنا لا أصنّع للأغنياء والفقراء، إنني أصنّع السكاكين والملاعق والسيوف على النحو الذي يجب أن تكون عليه، بكل جودتها وأناقتها، ومن أجل ذلك صار رؤساء الجمهوريات والحكومات والوزراء والفنانون يهتمون بها ويقتنون نماذجها، لم أبتكر شيئاً من دون أن يترك بصمات وأثراً يكون محور نقاش وكلام وتقويم».



strong>سكاكين جزين

تعدّ صناعة السكاكين في جزين الواجهة «الرائعة» لعاصمة السياحة، في الجنوب. هي تنفرد بها من خلال مجموعات من الأدوات المنزلية المطبخية (سكاكين وملاعق وشوك) المطعّمة بالمعادن والأصداف، فضلاً عن الخناجر والسيوف والهدايا الفنّية.
«تأسست» هذه الصناعة عام 1770م.، وتطوّرت مع مرور الوقت بما يتأقلم مع فنون القرن الواحد والعشرين، فنوّع الخلاق الجزيني أحجامها وألوانها ومصادرها وزركشتها، جاعلًا من شكل الطائر الجميل زينة لمقابض، ترمز إلى السلام، مصنوعة من قرن الكبش أو الجاموس، وفيها العظام الملوّنة والمعادن اللامعة. وهذه الصناعة مورد رزق لمعظم أهالي جزين، البالغ عددهم نحو 35 ألف نسمة. وكان أهالي المنطقة يتنافسون على ابتكار الأشكال والرسوم والزخرفة التي تزيّن القبضات المصنوعة بعض الأحيان، من قرون الحيوانات أو عظامها وتأخذ شكل طاووس أو عصفور أو سمكة أو وزة وغيرها. ويختلف زبائن هذه الهدايا تبعاً لسعرها وقيمتها. وعادة ما يختار الأثرياء المجموعة المؤلفة من أكثر من مئة قطعة، التي تصنع من العاج أو تكون مطعمة بالذهب الخالص والأحجار الكريمة، وتفوق كلفتها عشرة آلاف دولار، بينما يختار أصحاب الدخل المحدود بعض القطع أو مجموعة صغيرة تراوح قيمتها بين مائة و500 دولار.