أنطون الخوري حرب
لا يتعب رئيس الكتائب اللبنانية كريم بقرادوني من «الجهاد المستتر»الذي يبذله في خضم أزمة الاستحقاق الرئاسي، التي انتهت بنهاية عهد الرئيس إميل لحود وقيادة بقرادوني للحزب. وربما هذه مهمة الرجل الأخيرة قبل الانكفاء الهادئ
إلى إكمال كتابة تجربته التأريخية لهذه المرحلة، وقد كان الأجود في تأريخ سابقاتها عند مسيحيي لبنان


يرى كريم بقرادوني أن إنقاذ الاستحقاق الرئاسي واجب «قدري» يتطلبه لبنان في نهاية كل عهد. ولذلك عمل زئبقياً بين حزبه وفريقي 8 و14 آذار والعماد ميشال عون لتدارك الفراغ الذي أصبح أمراً واقعاً، مذكّراً الجميع بتجربة انتخاب الرئيس بشير الجميل، حين لم يقبل الأخير بأن تُجرى بنصاب النصف زائداً واحداً رغم الحرب والاجتياح الإسرائيلي، لأنها تعني تدمير صيغة التعايش بين الطوائف اللبنانية وتدمير علة وجود لبنان.
يملك بقرادوني كل المعطيات التي تؤكد إدراك الكثيرين لأخطار هذا القرار. لكن المواقف المطمئنة التي يطلقها بعض قادة 14 آذار لا تجد طريقها إلى خوف بقرادوني من « عدم إدراك هؤلاء، ولا سيما تيار المستقبل، معنى الذهاب إلى تلك الخطوة».
ومن الناحية الكتائبية، يثق بقرادوني بأن الرئيس أمين الجميل «بحسب معرفتي به، لن يخرج على مسلّمات الكتائب المعلنة، وأولها التزام النصاب الدستوري لعملية الانتخابات الرئاسية. وأنا سررت لتداوله مع العماد عون في أهمية إتمام الاستحقاق برئيس توافقي ونصاب دستوري هو ثلثا عدد نواب البرلمان، وإن لم يلحظا ذلك في البيان الصادر عن اجتماعهما».
ولا يبدو اندفاع تفاؤل بقرادوني في حجم حركته التي لا تهدأ، وقد يكون الرئيس الحزبي الوحيد الذي يجول بين أقطاب الساحة الكبار كالعماد عون والرئيس الجميل والرئيس نبيه بري والسيد حسن نصر الله والوزير السابق سليمان فرنجية، باستثناء النائبين وليد جنبلاط وسعد الحريري، ذلك أن «الفراغ الرئاسي وبقاء حكومة السنيورة أضحيا الآن أمراً واقعاً، وسيشتد النزاع على حكومة مشكوك في شرعيتها وتسيطر على كل السلطة التنفيذية. وكلما مرّ عليها يوم ستزيد احتمالات الفوضى الأمنية والإدارية والدستورية، وستقّيد الجيش وتحد من قدراته، كما سيتحمل الجيش عبء الانقسام السياسي، ولا شيء يبرر الرهان على تماسكه فيما نرمي خلافاتنا في وجهه. لقد أثبت الجيش قدرته على حفظ الأمن منذ 14 شباط 2005 حتى معركة نهر البارد، ولكن لا يجوز تحميله المسؤولية وحده، لأن الأمن في لبنان هو أمن سياسي يستمد قوته من الدولة التوافقية، ولا أمن خارج التوافق، وتمثّل الحكومة الحالية برئاسة سنّي أخطاراً كبيرة في غياب رئاسة الجمهورية، واستمرار النزاع على شرعية من يمثل هذا الموقع».
ويعيد بقرادوني الكرة إلى ملعب المسيحيين، لأن تنازعهم يؤدي إلى تدخل طوائف أخرى وتدخلات خارجية تزيد المشكلة، «لأن المرض الماروني التاريخي، وهو الهوس بالكرسي، يطيح كل الأسس والأوليات العامة. وفي رأيي، أن تكون زعيماً مسيحياً أهم من أن تكون رئيساً للبنان. لقد رافقت الرؤساء والعهود، واكتشفت حجم القيود التي تكبّلهم، فيما الزعماء يملكون المدى الواسع الذي يتحركون فيه. فبيار الجميل مثلاً، كان زعيم الشارع المسيحي الذي يساند عهد الرئيس فؤاد شهاب، ولم يكن شهاب ليحظى بالتأييد المسيحي لولاه، ولكنه لم يكن هو الرئيس، رغم أنه أوصل ابنيه إلى سدة الرئاسة، وما كانا ليصلا لولاه».
وكان بقرادوني قد حذر، في بعد نظره الثاقب، البطريركية المارونية من تسمية مرشح أو مرشحين للرئاسة. وهو ميال دائماً إلى مبادرة بكركي لعقد لقاء رباعي يجمع عون وفرنجية مع الجميل وجعجع، لينتج منه تفاهم على رئيس، دون أن يكون بالضرورة من بين المجتمعين، على أن توسع بكركي القمة لتصبح سباعية بدعوة الحريري وجنبلاط وبري، ويتصاعد منها الدخان الأبيض.
ويرى بقرادوني أن مهمة بكركي هي جمع أقطاب الطوائف اللبنانية في عملية إنقاذية، وهو يرى ذلك أمراً ممكناً. والدافع الاستثنائي لهذه المبادرة البطريركية يحتّمه عليها الانهيار المأساوي الذي سيخلفه الفراغ الرئاسي، فيما أن المبادرة لو نجحت، فلسوف يشهد لبنان هبّة اقتصادية لم يعرفها سابقاً، ومن الحيف تفويت هذه النعمة على اللبنانيين. وتشمل شبكة المسؤولية التي يوزعها بقرادوني على الأطراف المنقسمين، الطوائف المسلمة. فواجبها الدفع باتجاه التوافق المسيحي، الذي إذا ما فشل، فإن الفتنة ستشملهم أيضاً. لكن المسؤولية الأولى والكبرى تبقى على المسيحيين، الذين يرى بقرادوني فوق رؤوسهم شبح استحقاق 1988، وخاصة لناحية عدم بذل الجهد اللازم لتفادي تكراره.
وفي هذه الأجواء، لم تعد للوساطات الخارجية قيمة، كما لم يتبقَّ للبنانيين إلا دورهم في اتخاذ قرار تاريخي يحفظ لبنان.
ويكشف رجل المحطات المفصلية لـ«الأخبار» عن حال طوارئ أعلنها على نفسه لتنفيذ خطة الأيام والساعات الأخيرة التي تلي رحيل الرئيس لحود عن القصر الجمهوري، حيث وضع كل طرف أمام مسؤولياته إزاء ما يحصل. والأكيد أن هذه المهمة التطوعية ستكون الفصل الأخير من الكتاب الذي سينشره عن العهد اللحودي.
ثم يستكين الرجل وكأنه على عتبة شيخوخة النضج، ليعلن بحزم استخلاصه لعصارة تجاربه التي ستكون إرثه السياسي بعد استقالته من رئاسة الحزب. وهو يفاخر بأنه منذ كان رئيساً لمصلحة الطلاب، كرّس ديموقراطية تداول السلطة في الحزب، كما أدخل البعد العربي إلى سياسة الحزب في المكتب السياسي. وفي الرئاسة، أعاد توحيد الحزب بعد انقسام مزمن، وهو يتمنى أن يكتمل بعودة أعضاء حركة المصالحة والتصحيح وجبهة الحرية إلى صفوف الحزب، ولو اقتضى الأمر إغراءهم. لذلك سوف يقترح في آخر مؤتمر يحضره إعادة النظر في كل القيادة الكتائبية. واتصالاته لتحقيق هذا الهدف قائمة، لكنه يربط بين الحياة السياسية السليمة التي يتمناها لمستقبل الحزب والحياة السياسية المستقرة للبنان، «وإلا خضع الكل لحكم الفشل الكامل».
وعن دوره في المستقبل يقول الرئيس الكتائبي: «سأنتقل من العمل السياسي في حزب أمضيت فيه 48 سنة إلى مجتمع بحاجة إلى استراتيجيا مسيحية ضرورية للبنان من أجل صناعة دور مسيحي جديد. وبعد الانتهاء من تدوين كتابي الحالي، سأختم كتاباتي عن عملي السياسي بكتاب أخير سيكون عنوانه: تجربتي في الكتائب».