strong>مفيد مصطفى
• ما لا تعرفونه عن مهنة أمنية لا تؤمن أصحابها

«السيكيورتي»، أو الأمن الخاص، ظاهرة تعوّدنا أن ننظر إليها من الوجهة الأمنية فقط. لكن هذه المهنة التي احتضنت آلاف الشباب العاطلين عن العمل، في بلد تضاءلت فيه الفرص، تخفي خلفها الكثير عن معاناة شبان تغشّنا مظاهرهم ووقفتهم المهيبة، فلا تعكس نفسيتهم المنكسرة وهم الذين يعملون في أكثر المهن مهانةً وظلماً

يدور عقرب ثواني الساعة التي في يده ببطء شديد، ويتحوّل جسده بكامل أعضائه إلى عدّاد يحتسي الثواني في انتظار إنتهاء الدوام. يتكئ على درجة صغيرة ليريح جسده التعب من كثرة الوقوف. تترقب عيناه الطريق خوفاً من دورية مفاجئة. تنصت أذناه لجهاز اللاسلكي المعلّق على خصره، ربما يناديه فجأة فيحرمه من إستراحة سرقها، لا تتعدى الدقيقة. يمشي بضع خطوات مسموح بها ببطء ذهاباً وإياباً. يعدّ بلاط الأرض. يرصد الشجر والبناء وكلّ ما حوله بدقة، علّه يخفف من شحنة الملل الموجودة داخله.
هذا ما يذكره سعيد (24عاماً) عن عمله حارساً في إحدى الشركات الخاصة "security" في أحد شوارع السوليدير. كان هذا العمل الأول الذي مارسه فور نزوله من قريته البقاعية إلى بيروت ليكمل تحصيله الجامعي ويخفّف عن كاهل أهله وطأة المصاريف التي لا يقوون عليها.
يذكر أن أحد أصدقائه دلّه إلى شركة أمن كان يعمل فيها أحد أصدقائه. طلبت منه الشركة عدة بيانات: «عليك أن تأتي بسجل عدلي وأوراق تفيد بأنك غير مريض، وأخرى فيها الوزن والطول، وصورة لكامل الجسم، وبيان قيد فردي وعائلي وصورة عن دفتر الجيش...». أتى سعيد بالأوراق لكن المفاجأة التي نزلت على رأسه كالصاعقة أنه سيجري دورة تدريب تكلّفه 50 دولاراً، وبعدها سيُمتحن بالمعلومات التي أخذها، وفي حال نجح يدفع ثمن البدلة التي سيرتديها 100 دولار ويقضي الأيام الأربعة الأولى من خدمته مجاناً: هذه الأيام تسمى أيام التدريب "training". يضيف بمرارة «يعني طار معاش الشهر الأول».

قسوة ونظام عقوبات

رغم كلّ ذلك، عمل سعيد في الشركة براتب 390 ألف ليرة في الشهر، في حين كان مذهب صديقه الديني يؤمن له عملاً في شركة (يسميها لنا) توفر ظروف عمل أفضل للموظفين، إذ يتقاضى الحارس راتب 600 ألف ليرة لقاء ثماني ساعات في اليوم مع إجازة لثلاثة أيام كل ستة. إلا أن صديقه لم يحصل حتى اليوم على ضمانات: «وعدنا بالضمان الصحي بعد ثلاثة أشهر من البدء بالعمل، لكن لم يحصل أحد منا على شيءمحمد (18عاماً) يعمل في شركة تابعة لأحد التيارات السياسية، في ما يسمى «أمن سياسي وتطوعي»: «أعمل ثلاث ساعات في اليوم باللباس المدني» براتب يصفه بـ «البسيط: 300 ألف ليرة». يقول برضى، ويردف وهو يضرب كفاً بكف: «عملت ستة أشهر ولم أحصل إلا على معاش ثلاثة ما دفعني و14موظفاً لترك العمل».
وعلى رغم قسوة الوضع المعيشي في هذه المهنة، إلا أن الجانب النظامي يبدو أشد قسوة، إذ أنها «أشد صرامة من الجيش والقوى الأمنية» كما يقول رامي (28 سنة) الذي أدى خدمة العلم وخرج بخلاصة: «الجيش أرحم».
يتكئ على الحائط ليريح جسده المثقل بالتعب، ويستعد لسرد معاناته مع الحرس: «أقف ثماني ساعات متواصلة ولا يحق لي إلا باستراحة نصف ساعة للأكل». يفرك عينيه المزنرتين بهالات سوداء ويتثاءب من شدة النعاس: «كنت أذهب إلى البيت وأرمي بجسدي المتعب على الفراش مثل القتيل من شدة الوجع في رجلي وظهري ولا أقوى على الاستيقاظ في الصباح الباكر».
وإذا كانت هذه حال رامي الجسدية، فإن نظام المراقبة على الموظف، كما هي حال سعيد لم تكن أفضل بكثير. يقول وملامح الأسى بادية على ملامحه «كان هناك شخص ضمن الحرس مسؤول عني بشكل مباشر وفي حال وجد أي خلل يبلغني، فإن لم ألتزم يبلغ المسؤول الأعلى مني درجة». يتوقف عن الكلام وكأن ذكرى ما استوقفته، ثم يتابع «خلال النهار كنا نخضع لمرور دوريات علينا من عدة رتب». ويردف بنبرة درامية: «وفي حال وجد الحارس متكئاً أو واقفاً بطريقة غير مناسبة أو واضعاً يديه في جيوبه، فالضبط جاهز وهو عبارة عن خصم ثلاثة أيام من المعاش». ويضيف بابتسامة ساخرة: «أما في حالة الاستماع الى راديو صغير فالضبط خصم سبعة أيام من المعاش»، أما إذا وقع إشتباك مع أحد العناصر «فيتم الفصل النهائي مع خصم نصف شهر من المعاش».

المظهر الخارجي

أما حسن فتذكره قوانين المظهر الخارجي بقوانين المدرسة، ويقول باستهزاء «عليك بحلق ذقنك كل يوم وقصّ أظافرك بانتظام، وممنوع وضع الجل أو تطويل السوالف، بالإضافة إلى المحافظة على البدلة نظيفة ومرتبة». وما يثير إشمئزاز حسن أنه عند عدم الإلتزام، فآلة حلاقة الشعر الكهربائية جاهزة ليحلقوا له موديل على ذوقهم والضبط بدوره حاضر لخصم ثلاثة أيام من المعاش الضئيل.
ويشعر حسن منذ بدأ في هذه المهنة أنه مكبل، فبالإضافة الى المراقبة على الأرض هناك كاميرات تترصد كل تحركاته. ويكشف بحزن واضح في نبرة صوته كيف تعرض في هذه المهنة للظلم والتسلط، وفي العديد من الأحيان يضطر للدوس على كرامته والسكوت على «عيطة أو بهدلة»، كي لا يخسر مهنته ويبقى من دون عمل.
وفي موازاة الوضع النظامي، يزداد لدى الشباب العاملين في شركات الأمن الخاصة القناعة بأنهم أبعد ما يكونون عن العمل الأمني، وذلك من خلال المسؤوليات الملقاة على عاتقهمعندما تسأل سعيد عن المهمات التي كانت مناطة به حين كان يقف في ساحة أبو جميل كمن يقف في وسط صحراء قاحلة من البشر، يضحك بشدة ويقول بنبرة ساخرة «كانت مهمتنا حماية الرصيف والإبلاغ عن أي سيارة تصطدم بحاجز حديدي من الحواجز الموجودة عليه، أو إيقاف أي شخص مشبوه ومنع المتسولين من الدخول إلى المنطقة»، إلا أن سعيد غير مقتنع بكل هذه المهام التي كان يقوم بها. يصمت لحظات ثم يرفع حاجبيه وكأنه لم يفكر يوماً في الأمر، ويشرح: «أظن أننا كنا ديكوراً ليس إلا»، ويتابع ساخراً: «سمعت أحد السياح الذي مر بجانبي يقول ذلك».
رامي أيضاً الذي يعمل في إحدى مؤسسات الدولة (الضمان الإجتماعي )! مهمته أبعد ما تكون عن الأمن، فهي تقتصر على السماح بدخول سيارات الموظفين إلى الموقف وخروجها وهذه المهمة يمكن لأي موظف أن يقوم بها.
تختلف مهمة حسن الذي يعمل في مبنى فردان 703 عن زملائه إذ أن مهمته فيها جانب أمني: «كل ما نقوم به طوال الوقت هو حمل جهاز كاشف للمتفجرات أفحص به حقائب الداخلين إلى المبنى». ويوضح أنه قبل البدء بالعمل أجرى دورة أمنية، تلقى خلالها تدريبات عملية على فنون القتال من ضباط جيش وقوى أمن متقاعدين، ودروس نظرية عن كيفية إستعمال جهاز الاسلكي والتعامل مع حادث الحريق والإنفجار...
من جانبه، محمد، الذي أجرى دورة أمنية لدى شركة تابعة لتيار سياسي، تلقى دروساً عن «عقيدة» تيار سياسي آخر وطريقة تفكير عناصره وكيفية التصدي لهم في حال حصول حرب: «يتم قبول الشخص في الشركة بناءً على ماضيه وإنتماءاته السابقة التي يتم الإستخبار عنها». ويشرح: «كنا نلبس اللباس المدني ومهمتنا كانت مراقبة مداخل المكان (يذكره) ورصد كل إنسان غريب أو مشبوه».

الملل مشكلة أيضاً

كل ما يعانيه عناصر الأمن الخاص على الصعيد الإقتصادي والنظامي في كفة، والملل في كفة أخرى. الضجر هو المعاناة الكبرى التي يواجهها عناصر «السيكيورتي». العين شاخصة طوال الوقت على الساعة بانتظار إنتهاء الدوام الذي يمشي ببطء شديد وسط أسوار الوحدة في مكان ضيق: «كنا ننتظر مارّاً ليكلمنا أو حتى يسألنا عن منطقة معينة»، يقول سعيد واليأس يملأ كلامه. لكنه تمكن وزملاؤه من المخاطرة ببعض الأمور: «كنا «نستلم» بعضنا على الأجهزة اللاسلكية أوندخل في جدال مع «رفيق» دخل على الموجة الخاصة بنا ويكون هذا الحوار سباباً في معظم الأحيان»، والأجهزة الاسلكية تلتقط بعض الموجات الإذاعية: «كنا نستمع من خلالها الى الأغاني»، ويقول متحفظاً أن الأجهزة كانت تلتقط أيضاً المكالمات الهاتفية.
أما حسن الذي يقف على باب متجر فردان 703 فلاي مل كثيراً، إلا أنه يبدو مستاءً من النساء شبه العاريات اللواتي يدخلن إلى المتجر ويشكلن له مصدر إثارة ليس معتاداً عليه .
كل هذه المعاناة لمعاش لا يتخطى الحد الأدنى بكثير: «المعاش لا يكفيني لآخر الشهر، فهو يذهب بين إيجار شقة ومصاريف جامعية»، يقول سعيد، ويردف بنبرة درامية: «لا يعمل في هذه المهنة إلا المقطوع واللي ما إلو واسطة».
على رغم من هذه المعاناة يبدو الجميع راضياً في بلد لا ينفع فيه كلام، وتبقى فيه شكوى العامل آخر الهموم.



حقوق العامل في القانون

قد يبدو أمراً مضحكاً العودة إلى قانون العمل لمعرفة المخالفات القانونية التي يمارسها أرباب العمل المسؤولون عن رجال الأمن الخاص، لأن الكثير من المؤسسات في لبنان لا تلتزم القانون في معاملتها لموظفيها. على رغم ذلك، ننشر على سبيل التذكير فقط، ما ينص عليه القانون اللبناني بالنسبة لحقوق العمال:
أولاً: ضمان الأجير بعد ثلاثة أشهر من البدء بالعمل.
ثانياً: ينصّ القانون على إعطاء العامل تعويضاً بمقدار شهر عن كل سنة.
ثالثاً: أن يكون أجر الساعات الإضافية التي إشتغل فيها الأجير 50% زيادة عن أجر الساعات العادية.
ثالثاً: كلما ارتفعت ساعات العمل على ست للرجال وخمس للنساء وجب على رب العمل أن يمنح أجراءه عند منتصف نهار العمل راحة لا يجوز أن تقل عن ساعة.
رابعاً: إذا أصيب الأجير بمرض فله الحق بإجازة مرضية.
خامساً: لكل أجير الحق في إجازة سنوية خمسة عشر يوماً بأجر كامل بشرط أن يكون مستخدماً في المؤسسة منذ سنة على الأقل.
سادساً: إذا ارتكب العامل أثناء العمل خطأً جدياً أو إهمالاً فاضحاً أو خالف الأنظمة الداخلية للمؤسسة يحق لرب العمل أن ينزل به على سبيل العقاب غرامة، لا يجوز أن تتعدى حسم الأجر ثلاثة أيام عن الفعل الواحد.