ملاك مكي
قلّما نشهد نشاطاً تضامنياً مع القضية الفلسطينية من دون مشاركة ناشطين أجانب. بعضهم يزور لبنان دورياً، كما يزور فلسطين والعراق، وبعضهم يقيم في لبنان، بعد منعه من دخول الأراضي المحتلة. في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، نحاول أن نعرف بعضاً من الأسباب التي تدفع هؤلاء إلى نشاط مماثل

في 29 تشرين الثاني 1947 قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية، ما كان بمثابة حجة أساسية في «تشريع» اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية. وبعد ثلاثين عاماً (1977)، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة الـ29 من تشرين الثاني من كلّ عام يوماً عالمياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني. تضامن يكاد يقتصر اليوم، وخصوصاً بعد مؤتمر أنابوليس، على تحركات فردية لمتطوعين أجانب أتوا من بلاد مختلفة من العالم رفضاً للتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني أولاً، واللبناني والعراقي ثانياً وثالثاً... «الأخبار» التقت ثلاثة من هؤلاء الناشطين، وحاورتهم في الأسباب التي دفعتهم إلى ترك بلادهم والعيش في ظروف أقلّ ما يقال فيها إنها غير سهلة.

كويفا باترلي

نعرفها جيّداً. نشير إليها بالإصبع في أيّ مكان نراها فيه. إنها الشابة الإيرلندية كويفا باترلي التي اخترقت المؤتمر الصحافي لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في بيروت العام الماضي، لكننا لا نعرف الكثير عن أسباب مجيئها الى لبنان، وقبله فلسطين.
ولدت كويفا في إيرلندا عام 1979، أمضت طفولتها بين كندا وأفريقيا حيث شهدت في الأخيرة نماذج متنوعة من انتهاك حقوق الإنسان. درست الإعلام وعلم النفس، تنقلت بين لندن ونيويورك وإيرلندا حيث كانت تعلّم اللغة الإنكليزية وتعمل في مجال الأفلام الوثائقية.
بداية علاقتها بالقضية الفلسطينية كانت مع مشهد تلفزيوني لجندي يضرب فتاتين ويكسر ذراعيهما. المشهد يثير الارتباك، سألت والديها عن الجندي وعن الفتاتين، فأخبراها الحقيقة كما هي، الجندي إسرائيلي والفتاتان من فلسطين، الأرض التي اغتصبها الإسرائيليون وظلموا شعبها. في 11 أيلول 2001، بينما كانت تمشي في شوارع إيرلندا، نقل إليها صديقها خبر الهجوم على البرجين في أميركا. وقدّرت كويفا بعد متابعتها للصور التي بُثّت والتعليقات التي تناولت الحدث، أنّه ستُستغلّ هذه الضربة لقتل العديد من الأبرياء.
بعد أسبوعين، قرّرت المجيء الى العالم العربي ضمن بعثة «أصوات في الصحراء» (voices in the wilderness) في محاولة لخرق الحصار الاقتصادي المفروض آنذاك على العراق، ونقل الصورة الحقيقية إلى أوروبا لحثّ الشعوب على الوقوف ضد الحرب المرتقبة.
بعد ثلاثة أشهر من العمل في مشاريع تربوية صغيرة، قررت كويفا الانتقال الى فلسطين. وعلى رغم عدم اعترافها بإسرائيل، كان لا بد لها من استخدام جواز سفرها الإيرلندي للحصول على تأشيرة دخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. هناك أقامت في جنين درعاً بشرياً تحمي الأطفال من شراسة الجنود الإسرائيليين، وتوفر نقل المصابين في الإسعاف... لكنها لم تستطع أن تحمي مريم (بطلة المخيم وأم الثورة كما كانت تُلقّب)، ربة العائلة التي أقامت عندها، من إحدى المجازر الاسرائيلية المتنقلة في المخيم آنذاك.
كانت هذه المأساة أقسى مرحلة في حياة كويفا، سافرت بعدها الى نيويورك لادخار بعض المال من خلال عملها نادلةً في أحد المطاعم، وعادت مجدداً إلى جنين حيث درّبت الأطفال والشباب على صناعة أفلام وثائقية، وحمت بعض بيوت الشباب المقاومين من خلال وجودها فيها.
في تشرين الثاني من عام 2002، أطلق عليها جندي إسرائيلي النار فأصابها برصاصة في رجلها، بعدئذ لاحقها الجيش الإسرائيلي بتهمة مساعدة المقاومين وتمثيلها خطراً على الكيان الصهيوني، فكان عليها أن تمشي كثيراً خوفاً من حواجز المرور إلى أن أُوقفت في كانون الأول من العام نفسه، ووُجّهت إليها تهمة تصنيع القنابل، ورُحّلت الى الأردن ثم الى إيرلندا. هناك لم توقف عملها النضالي، بل حاضرت في الجامعات لشرح حقيقة ما يجري في فلسطين.
قبل عشرة أيام من وقف الحرب على العراق، كانت كويفا قد وصلت مع ناشطين آخرين لتصوير ما يجري وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، لكن بعد قتل صديقهم، قرروا الرحيل عن العراق، وعادت كويفا، بعد تغيير اسمها، الى فلسطين لثلاثة أشهر، ومنها الى لندن.
في تموز 2006، اندلعت الحرب على لبنان، حاولت كويفا العمل على الأرض في لندن لحثّ الشعب على الوقوف ضد الحرب، لكنها رأت أن من الأفضل لها أن تأتي الى هنا والتطوع في أعمال الإغاثة، فكانت مع «صامدون» ومع بعض الصحافيين الأجانب تساعد على نقل الصورة الحقيقية للواقع. وبعد الحرب، أمضت كويفا شهوراً عدة في عيتا الشعب، تساعد العائدين إلى قراهم المنكوبة. وبعد اندلاع أحداث مخيم نهر البارد، وجدت نفسها في مخيم البداوي تعالج جراح الفلسطينيين.
سيرة ذاتية حافلة ومناضلة. لا تجد كويفا لنفسها إمكانية حياة أخرى، فواجبها الإنساني يقضي بالجهاد ضد الظلم. كان يجب عليها أن تواجه بعض الأخطار، فدمها ليس أغلى من دم منَ يستشهد في سبيل أرضه. هي ليست غريبة عن جميع العائلات التي استقبلتها، بل واحدة من أفرادها، كما تقول. تشعر بالذنب، لا لكونها غربية، بل لأنّها إنسانة تشعر بمسؤولية عمّا يجري حولها. تشعر بصلابة هذا الرجل اللبناني الذي فقد في مجزرة الشياح جميع أفراد عائلته، لكنه لم ينكسر. في مقابلة أجرتها معه، أصرّ على تقديم واجب الضيافة. وبينما هي جالسة في مؤتمر طوني بلير في بيروت، تذكرت بريق عينيه، البريق الذي دفعها الى رفع اللافتة وقطع المؤتمر.
تعرف كويفا أن الكثيرين في الغرب يخافون من الدفاع عن حق المقاومة المسلحة، وتعرف أيضاً أن منهم من تعب لأنه لم يعش أي تغيير، لكنها ما زالت تؤمن بأن على المناضلين إيجاد قاعدة مشتركة تنصر قضاياهم. أما حلمها فهو أن يأتي يوم تتمكن فيه، هي وجميع من عرفتهم، العيش بأمان وسعادة.

ماثيو كاسل

لا يحظى ماثيو كاسل بشهرة كويفا، لكنه ليس أقلّ منها رغبة في الدفاع عن حقوق الشعوب...
ولد ماثيو (25 سنة) في شيكاغو، في مجتمع متنوع يضمّ الفقراء والأغنياء، البيض والسود، المسلمين واليهود. لم تعن له السياسة شيئاً. كان همّه أن يكون مضحكاً وشعبياً. حصل على شهادته الجامعية في فن التصوير عام 2001، التاريخ الذي تعرضت فيه بلاده لاعتداء عنيف. شاهد المواطنين يحملون العلم الأميركي، فتابع الأخبار عن كثب، وأحسّ بأن هناك شيئاً خطيراً يدبر له. بدأ بالتساؤل عن سياسة بلاده و«لماذا يكرهوننا». لم تقنعه الدعوات إلى الذهاب للحرب في أفغانستان ثم العراق في وقت يعاني فيه الكثير من المواطنين الفقر، الجوع والعنصرية. طُرد الكثير من رفاقه السود في المدرسة، لكنه بقي لأنه أبيض. عرف أن المحطة الإعلامية (nbc) وقطاع تصنيع الأسلحة تسيطر عليهما شركة واحدة (GE)، وأن المال والسلطة في يد واحد في المئة من المجتمع الأميركي.
اكتشف أن ما يسمعه ليس مقنعاً، وبدأ البحث عن إعلام مستقلّ وموضوعي. اكتشف أخطار الإمبريالية، والحاجة إلى السيطرة على موارد النفط في العالم، فاتخذ موقفاً منها وانخرط في تحركات طالبية في كولومبيا كولدج.
مع بدء الحرب على العراق، اهتم أكثر بالقضية الفلسطينية التي لم يكن قد سمع عنها شيئاً في صغره، إذ سمع الكثير عن هتلر والنازية، وأن إسرائيل دولة جيدة تعاني إرهاب الفلسطينيين. في صيف 2003، قرّر الذهاب ضمن بعثة من مختلف الجنسيات (International solidarity movement) إلى فلسطين، فسافر من شيكاغو إلى تل أبيب وأقام في حيفا حيث اطلع على أحداث 48 والنكبة وغيرها. التقط صوراً للإهانات التي يتعرّض لها الفلسطينيون على الحواجز، ولرمي الأطفال بالرصاص، فقرّر العودة بها إلى أميركا وعرضها. ويؤكد أنه «لا يكفي أن نأتي إلى فلسطين ونساعد بعض العائلات فقط، فعلينا أن ننقل حقيقة الواقع إلى الغرب حيث الإعلام يضلّل الشعوب».
بعد إقامة معرضه في أميركا، عاد ماثيو إلى مخيم بلاطة وعمل على تدريب الأطفال على مشاريع تصويرية، وتمكن بعدها من اصطحاب بعض أطفال المخيم الى أميركا ليتحدثوا عن واقعهم أمام بعض الهيئات، ما أثّر فعلاً في الكثير من أبناء شعبه. في زيارته الأخيرة للمنطقة، لم يتمكن من الدخول إلى فلسطين، فعاد أدراجه إلى الأردن ثم إلى لبنان حيث يعمل اليوم مساعداً إدارياً في مشروع «الانتفاضة الإلكترونية»، الذي يهدف إلى نشر مقالات وصور عن الوضع الفلسطيني، ما يزيد من وعي القارئ الغربي لحقيقة الأمور.
الاستسلام ليس أحد خياراته، فصديقه الفلسطيني في السجن اليوم، وهو يرى أن من واجبه رفع صوت المعتقلين في السجون الاسرائيلية، وأن ينقل للغرب صورة العربي الإنسان لا الإرهابي، الإنسان الذي يشبههم في تحركاته وانشغالاته اليومية لأنه «عندما تعرف كيف يعيش الآخر وكيف يمضي في الصباح الى عمله، فإنك لا تقتله».

تانيا مارتينيز

لم تأت الإسبانية تانيا مارتينيز (30 سنة) الى لبنان ناشطةً سياسيةً أو اجتماعيةً، بل أتت لإعداد رسالتها في الماجستير، وهي المتخصصة في علوم اللغات من جامعة برشلونة.
البداية كانت مع قرارها السفر إلى الشرق الأوسط، حيث لم توفق في الدخول إلى سوريا، كما كانت تخطط، فاختارت جامعة بيت لحم. في فلسطين، شهدت عن قرب الاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون، ولمست قوة الجندي الاسرائيلي مقابل ضعف المواطن الأعزل. بعد ثلاث سنوات من إقامتها في فلسطين، قررت السفر إلى السويد لمتابعة دراستها في موضوع المساعدة الدولية اقتناعاً منها بأن التخصص في هذا المجال قد يكون مفيداً لها ولكثير من الناس. وبعد سنتين من الدراسة حاولت دخول غزّة لمتابعة بحثها الأكاديمي، لكن الوضع لم يسمح لها، فاختارت لبنان حيث تعمل الآن مع منظمة المساعدة الشعبية النروجية في المخيمات الفلسطينية.
تعترف تانيا بأنها فوجئت بوضع الفلسطينيين في لبنان وحرمانهم حقوقهم المدنية، وكم كان محرجاً بالنسبة إليها أن تكون قد استطاعت هي الإسبانية زيارة فلسطين في حين أن معظم الفلسطينيين من سكان المخيمات لم يروها، ويسرّون بسماعها تردد لهجتهم.
لا تجد تانيا في عمل المنظمات غير الحكومية حلاً، لأن المساعدة تبقى في إطارها الضيق المسعف. الحل برأيها يجب أن يكون سياسياً، أن يكون للفلسطينيين دولة تحمي هويتهم وانتماءهم.
تكتب بعض أفكارها السياسية، في مدوّنتها الإلكترونية في محاولة لكي يكوّن المتلقّي فكرة عن قضية الشرق الأوسط. تعرف أن البعض فقد الأمل، لكن لا سبيل للحلّ من دون النضال، ويجب على الناشطين الضغط على حكوماتهم، والتظاهر، وإنشاء المنظمات والجمعيات لدعم الشعب الفلسطيني.
هؤلاء وغيرهم أتوا من مختلف البلاد، لا لأنهم يكرهون أوطانهم، بل على العكس، فحبّ العالم يولد من حب الوطن، ولا لأنّها قضيتنا تستوجب الدعم، بل لأن قضية العدالة والحق هي أيضاً قضيتهم، قضية كلّ حر في هذا العالم.
ومن ينسى راشيل كوري؟

راشيل كوري (23 عاماً) مناضلة أميركية جاءت من مدينة أوليمبيا في واشنطن ضمن مجموعة التضامن العالمي مع شعب فلسطين لتقف بجانب أناس معذبين لم تكن لها أيّ صلة بهم من قبل. أقامت في غزة لدى عائلة نصر الله التي تبنّتها، لكن راشيل كانت تشعر بالذنب في «أن أكون قبلة أنظار أناس يواجهون الهلاك...»، من دون أن تعرف أنها ستكون ضحية الدفاع عن هذه الأسرة البائسة التي فتحت لها قلبها وذراعيها، يوم جاءت الجرافات الإسرائيلية لتهدم منزلها في 16 آذار 2003. ذلك اليوم تصدّت راشيل للجرافة ووقفت أمامها، ظنّاً منها أن الجندي الإسرائيلي الذي يقود الجرافة سيردعه وقوفها أمامه، لكنه لم يتوقف، بل صدمها ثم داس عليها، لتلقى مصرعها في الحال.
لم تكن راشيل رحّالة أو مسافرة احترفت مشاركة الآخرين في آلامهم كهواية، ولم تكن باحثة عن الإثارة، ولم تكن لديها رغبة في الموت، بل كانت هناك لأنها شعرت أن باستطاعتها التأثير وإحداث تغيير، فشاركت في نشاطات للمساعدة في التخفيف من أوضاع الفلسطينيين المعيشية، كمساعدة المزارعين في حصد الغلال، ومرافقة الأطفال الى المدارس، وإبقاء الطرق مفتوحة أمام سيارات الإسعاف والقيام بأعمال احتجاج سلمية.
كتبت راشيل لوالدتها الكثير من الرسائل الإلكترونية، في واحدة منها تقول «كل ما أردته هو أن أكتب لأمي لأقول لها إني أشهد هذا التطهير العرقي المزمن وخائفة جداً، وأراجع معتقداتي الأساسية عن الطبيعة الإنسانية الخيّرة. هذا يجب أن يتوقف. أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرّس حياتنا لجعل هذا يتوقف. أشعر بالرعب وعدم التصديق». وتضيف: «أشعر بخيبة الأمل أن يكون هذا هو أساس حقيقة عالمنا وأننا نشارك فيه بالفعل. ليس هذا أبداً ما أتيت من أجله الى هذا العالم. ليس هذا أبداً ما أراده الناس عندما أتوا إلى هذا العالم. هذا ليس العالم الذي أردت أنتِ وأبي أن آتي إليه عندما قررتما أن تنجباني، هذا ليس ما عنيتِه عندما نظرت إلى بحيرة كابيتول وقلت: هذا هو العالم الكبير وأنا آتية إليه».