جان عزيز
ثمّة ثلاث قراءات مطروحة لتفسير الإشارات المستجدّة من جانب فريق السلطة، عن إمكان قبوله بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
القراءة الأولى هي الأكثر بدائية وسطحية، ومفادها أن هذا الطرح مجرد مناورة من جانب الموالاة. وتفصيل هذه القراءة أنه بعد التطورات التي شهدتها الساعات 28 التي سبقت نهاية ولاية إميل لحود، أصيب فريق السلطة بسلسلة نكسات سياسية وإعلامية، أولاً في الساحة الدبلوماسية الخارجية، وثانياً في الساحة المسيحية. ذلك أن ظهور فريق 14 آذار في مظهر المعرقل لآخر الأسماء الممكنة من لائحة بكركي، ترك آثاراً سلبية نسبياً، على صورة السلطة لدى بعض أصحاب المساعي الغربية.
كما أن مسارعته إلى رفض مبادرة ميشال عون، لم تمر من دون خسائر مسيحية كبرى لفريق الموالاة. حتى إن الراصد لنبض الشارع المسيحي مذذاك، يدرك أن الرابية اليوم باتت في موقع مَن «أقفل» الرأي العام المسيحي، وسحب كل البساط من تحت كل أقدام الأقليات المسيحية المبعثرة في حكومة السرايا. وما كان ينقص هذا الوجدان المسيحي العام، جاءت «غلطة» زيارة فؤاد السنيورة إلى بكركي لتكمله.
هاتان الخسارتان، هما ما ترى القراءة الأولى، أن فريق السلطة يحاول الرد عليهما، عبر «رمي» اسم العماد ميشال سليمان مرشحاً رئاسياً له، أو ممكن التبنّي من جانبه. وفي اعتقاد المعنيين بهذه القراءة، أن ترشيح الموالاة لقائد الجيش، سيعيد وضعية الإحراج والارتباك إلى المعارضة.
لكن القراءة الثانية لطرح الموالاة اسم سليمان، تبدو أكثر جدية. وتفصيلها أن ثمّة مَن نظّر لفريق قريطم عن تاريخية التكوين السياسي والسوسيولوجي المسيحي، وأن هناك مَن شرح لشباب 14 آذار ثنائية الكتلتين الدستورية والوطنية لدى المسيحيين طيلة أكثر من عقدين، وكيف أن الكتلة الأولى كانت تستميل مؤسسة الجيش تقليدياً، «فتناصف» في معاركها المسيحية. فيما الكتلة الوطنية كانت دائماً تحوز تعاطف مؤسسة الكنيسة، ما يسمح لها بالمناصفة نفسها. والنظرية نفسها فسّرت لحديثي العهد في السياسة اللبنانية، أن ميشال عون اليوم بات أقوى من الكتلتين مجتمعتين. وما حققه في الشارع المسيحي، لم يعد ممكناً مواجهته أو استيعابه، إلاّ عبر جمع «المؤسستين المسيحيتين» لموازنته. أي إن المطلوب توحيد الكنيسة والجيش على طرح واحد مقابل لطرح عون.
أمّا القراءة الثالثة للطرح وتفسيره، فهي الأكثر بعداً وتحليلاً وتركيباً. تقول هذه القراءة إن ظهور اسم العماد سليمان مرشحاً رئاسياً لدى فريق السلطة، ليس مناورة بالتأكيد، ولا هو نتيجة حسابات إلغاء ميشال عون فحسب، بل هو أكثر عمقاً. ذلك أن الجذر الأول لهذا الطرح، هو التنظير للحظة التقاطع الأميركي ـ السوري التي يراهن عليها بعض الموالاة، استناداً إلى مفهوم «عملية أنابوليس»، قياساً إلى «عملية مدريد».
ويفكر أحد أركان فريق 14 آذار بصوت عالٍ قائلاً: إذا كان لهذا التقاطع أن يحصل، فهو سيتضمن حتماً سلسلة اتفاقات وتسويات. منها المحكمة الدولية والنفوذ اللبناني والانفتاح الغربي، كمكاسب لدمشق. ومنها في المقابل الملفان العراقي والفلسطيني وفك الجسر بين طهران والضاحية الجنوبية، كمكاسب بالنسبة إلى واشنطن.
ويسترسل الركن نفسه في استعراض ما يراه إشارات معبّرة عن آلية التمهيد لهذه العملية. من المشاركة السورية في أنابوليس وسط عدم رضى إيراني كامن أو مكتوم، وصولاً إلى صورة عباس زكي زائراً لمخيم اليرموك في سوريا، فيما خالد مشعل زائر متجوّل أو ضيف ثقيل متثاقل تدريجياً بالنسبة إلى دمشق. وفي ظل هذه القراءة تبدو مؤسسة الجيش عنصراً ضرورياً للترجمة والضمانة لبنانياً. قبل أن يستدرك الركن نفسه بالقول: صحيح أن ذلك لا يعني طلب الصدام العنفي المباشر بين الجيش اللبناني وحزب الله، لكنه قد يعني بداية مسار تدريجي على مدى ستة أعوام، تماماً كالمسار الذي تعهده النظام السوري تجاه منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1984، حتى انتهى إلى جعل ياسر عرفات جاهزاً للتسوية في أوسلو سنة 1993. ويختم ركن 14 آذار قراءته الثالثة بالقول المجازي: في النهاية، وفي حسابات النظام السوري ومصيره، قد لا يكون أبو هادي أغلى أو أعزّ من أبو عمّار.
ومرة أخرى تبدو الملاحظات التصويبية حيال القراءات الثلاث كثيرة. فلجهة القراءة ـ المناورة، من المسلّم به أن الشرط الأول لنجاح أي مناورة، هو ألّا يكون هناك أدنى شك حيال كونها مناورة. ولجهة القراءة ـ الحل المسيحي اللبناني، يبدو أصحاب هذا الطرح كمَن يطلق النار على نفسه لجرح خصم ملاصق له. أمّا القراءة ـ الحل الأميركي السوري، فدونها الكثير وأوله موقف الجيش وقائده، الذي كرّسته التطورات أكثر من مرة.
تبقى خلفية الطرح، وهي الأهم، ذلك أنها تكشف أن هناك مَن يتعاطى مع المأزق بنيّات مكشوفة، تراوح بين استدامته، وبين تحويله مأزقاً أكبر، لكنه مأزق متخيّل وموهوم.