إبراهيم الأمين
أين يقف حزب الله من الأزمة الحالية؟
لا حاجة إلى القول إن الجميع في لبنان وخارجه يعرفون أنْ لا مجال لأي حل رئاسي أو غير رئاسي من دون موافقة حزب الله. ولم يعد الأمر مقتصراً على كسب مشاركة ما له في مثل هذه المسائل. وواقع الأمر أن الحزب، بما يمثّله داخلياً وما يضطّلع به من دور إقليمي، وما بات يمثّله في أذهان كثيرين من العرب والمسلمين، يمثّل ضماناً لأي حل، كما يمكن أن يمثّل تهديداً واضحاً وقوياً لأي محاولة فرض حل لا يَقْبل به.
ربما تأخّر الأميركيون وبعض الجهات الغربية في فهم هذه الحقيقة، لكن سير الأحداث يدلّ على اتجاه للتعامل بواقعية مع دور الحزب وتأثيره، وخصوصاً أن الغرب جرّب مراراً التعاطي حيال الحزب بأساليب أخرى ولن يتوقف عن تكرار مثل تلك الأساليب، سواء من خلال مغامرات إسرائيلية جديدة أو من خلال محاولات داخلية، ولكن واقع ما يجري حول لبنان يقول إن الجميع يريدون كسب الوقت، وبعدذلك «الشاطر بشطارته» كما يقول المثل، فإن نجح الغرب وإسرائيل في خلق وقائع جديدة في المنطقة فإنهم يستطيعون استثمارها في لبنان وبالعكس، لكنّ التحوّل الأساسيّ الذي طرأ في الآونة الأخيرة يقوم على وقائع فشل محاولة ضرب حزب الله سياسياً بعدما فشل مشروع ضربه عسكرياً. وبالتالي، فإنّ الرهان الأميركي الحالي يستند الى لعبة الاحتواء لسوريا أو لحزب الله من داخل الشأن اللبناني، وهو رهان قد لا يكون في محله، لكنه يفتح الباب أمام تغييرات في الإدارة السياسية للملف اللبناني، أي، عملياً توسيع هامش المناورة لدى حزب الله وتضييقه لدى الآخرين.
وكثيراً ما هدّد الأميركيون وفريق 14 آذار حزب الله بالحرب المذهبية إن هو صعّد تحركه الاحتجاجي على الفريق الحاكم، وكثيراً ما جرى ابتزاز الحزب بأنه لا يمكنه أن يصرف جهده في مكانين: مواصلة بناء منظومته الخاصة بالمقاومة ما بعد حرب تموز 2006، ومواجهة متطلبات الوضع الداخلي. ومع أن الحزب لم يخفِ انزعاجه من هذا الواقع الذي فرض عليه، فقد اكتشف أن بإمكانه خوض هذه المعركة المزدوجة، وربما من المفيد هنا الإشارة إلى أن الحزب فكّر في احتمالات تدهور الأمور إلى حد اضطراره إلى مواجهة مزدوجة، واحدة مع إسرائيل وأخرى مع حلفاء أميركا في لبنان، مما دفعه إلى وضع استراتيجيا عمل لمواجهة هذا الاحتمال. وهو الأمر الذي لمسه المراقبون في الأسابيع الأخيرة عندما أعلن حزب الله صراحةً أنه لن يقبل بفرض «تركيبة سياسية داخلية» بحجة أن الأمر في يد الأميركيين، ومن ثم ينتظر حتى ينعكس ذلك سلباً على المقاومة. ولم يكتف الحزب بالتحذير السياسي، بل بعث برسائل مباشرة وغير مباشرة إلى كل الأطراف المعنية من قوى حليفة وصديقة ومن الخصوم على اختلافهم، وكان ما أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مناسبة «يوم الشهيد» في ما يتعلق بوضع برنامج عمل للمرحلة المقبلة، بمثابة الإشارة الأكثر جدية إلى أن حزب الله ومعه قوى المعارضة لن يقبلوا بأي وضع يفرض عليهم، وعلى الطرف الآخر أن يتحمل مسؤوليته سياسياً وشعبياً إن هو تجاوز التفاهمات العامة.
ربما قبل هذا الخطاب كانت إشارات التحوّل قد بدأت بالورود من الخارج. النائب وليد جنبلاط شعر باكراً بأن هناك تعديلات جدية في التوجهات الأميركية تجاه لبنان. لم يرتح لا هو ولا سمير جعجع لمبدأ تفويض فرنسا إدارة الملف، لأن باريس تعرف أنه لا يمكن تجاوز سوريا، ولأن الإدارة الفرنسية ليس فيها جاك شيراك، دون أن يعني هذا الكلام أن لفرنسا سياسة مختلفة عن السياسية الأميركية، لكنّ مبدأ الحوار المفتوح الذي أرادته باريس جعل قوى الأكثرية تنطلق في رحلة الشكوك التي تعاظمت مع الوقت ووصلت إلى حدود القلق مع اقتراب أنابوليس، قبل أن ينتهي الأمر عندما توصلت قوى الأكثرية البارزة إلى التسليم بتعذّر إمكان انتخاب رئيس بالنصف الزائد واحداً، مما اضطر جنبلاط إلى معاتبة قائد «القوات اللبنانية» الذي دعا مع بعض رجال 14 آذار إلى السير بالانتخابات مهما كان الثمن. فقد قال له جنبلاط: أنا لا أريد الذهاب إلى الحرب، إذا كنت أنت تريد فاذهب وحدك. أما أنا، فأرى أن الوقائع تفرض علينا السير في خط التهدئة، وليس أكثر من ذلك.
كان كلام جنبلاط بمثابة إشارة واضحة إلى أن التنازلات سوف تبدأ من الجانب الأكثر تعقيداً، أي: التخلي عن الخطاب الخنفشاري وغير الواقعي عن مصير المقاومة وسلاحها. وأكثر من ذلك، فإن التنازلات سوف تأخذ شكل إدارة مختلفة للعلاقات مع سوريا. والطامّة الكبرى بالنسبة إلى فريق 14 آذار هي أنه سوف يكون مضطراً إلى التعامل مع ملف المحكمة الدولية على أنه جزء من البازار الخارجي. وقد تحصل تطورات تظهر صعوبة استخدام هذا الأمر في مواجهة سوريا أو أحد في لبنان.
من جانبه، لم يكن حزب الله يريد المواجهة، لكنه قال كلاماً واضحاً مفاده أنه بات مستعداً لأي نوع من المواجهات إذا فُرضت عليه، وأن الموانع التي قامت بقصد منع الفتنة ومنع أمور أخرى، قد تسقط تلقائياً عندما يشعر الحزب بأن مصيره على المحك. وقد أكد في هذا السياق أن الوقائع السياسية المحلية تبدلت بقوة، وأن حزب الله سوف يثبت للجمهور من مواقع مختلفة أنه معني بتسوية تعيد الاعتبار إلى أدوار جميع الفئات اللبنانية، ويأتي في هذا الإطار موقف الحزب من ربط مصير الملف الرئاسي بالعماد ميشال عون. وفي هذه النقطة سيكتشف المسيحيون، ولو مع الوقت، أن حزب الله احترم رغبات الشريك المسيحي في المعارضة، ومواقفه أكثر ممّا احترم سعد الحريري ووليد جنبلاط الشريك المسيحي في فريق 14 آذار. كما سيتحوّل الإحباط الآذاري من سلوك الحريري وجنبلاط الى مادة مراجعة قسرية عند الجمهور المسيحي الذي جرى اللعب على مواقفه وعلى عواطفه خلال الفترة الماضية، وسوف نشهد ضموراً منطقياً للأحجام التي جرى نفخها من جانب فريق الحكم مدعوماً من الولايات المتحدة والسعودية، وتعود قوى 14 آذار المسيحية الى حجمها الطبيعي، الذي لا يعطيها حق وضع فيتو على الآخرين.