عمر نشابة
أشار التقرير التاسع للجنة التحقيق الدولية المستقلة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والجرائم الأخرى المتلازمة، الى الخطوات التي اتخذتها اللجنة لكفالة تحقيق نقل أنشطتها على نحو منسَّق إلى المحكمة الخاصة بلبنان، وذلك عملاً بقرار مجلس الأمن ١٧٥٧ الذي أنشئت على أساسه تلك المحكمة، لكن هذه الخطوات لا تدلّ على الاقتراب من ختم التحقيق بما يتيح للمدعي العام تقديم اتهام موجّه ومدعوم بأدلة جنائية مترابطة ودقيقة بحسب المعايير المهنية والقانونية. وذلك على رغم تحدّث التقرير عن تحديد مجموعة أشخاص مشتبه بهم بالاشتراك في الجريمة أو في الإعداد لها أو كانوا على علم بوقوعها. على أي حال، إن التقرير التاسع لم يأت بجديد في هذا الخصوص، إذ إن التقرير الثامن الذي صدر في 12 تموز الماضي كان قد ذكر أن اللجنة تمكّنت من «تحديد عدد من الأشخاص موضع الاهتمام الخاص الذين قد يكونون متورطين في بعض نواحي الإعداد للاعتداء على رفيق الحريري أو تنفيذه، أو في القضايا الأخرى قيد التحقيق، أو قد يكون لهم علم مسبق بأن الخطط المتعلقة بالقيام بهذه الهجمات كان يجري تنفيذها» (الفقرة 112).
لكن اللافت في التقرير الأخير للجنة برئاسة براميرتس هو الإشارة الى درس اللجنة درساً موسّعاً ومعمّقاً لطبيعة العلاقة التي يشتبه بوجودها بين مسؤولين سوريين من المرجّح أنهم يعملون لمصلحة أجهزة الاستخبارات من جهة، وأصوليين إسلاميين يعملون ضمن مجموعات منظّمة من جهة أخرى، وخصوصاً أولئك المرتبطين بقضية أحمد أبو عدس. ففي معرض تقدم التحقيقات في جريمة اغتيال الحريري يذكر التقرير «احتمال أن يكون الحريري قد استُهدِف من مجموعات متطرفة لأسباب محتملة عديدة، من ضمنها واقع أنه كان يُنظر إليه على أنه شخصية بارزة في جماعته. بما أنه لا يمكن إغفال أن يكون دافع اغتيال الحريري قد تكوّن من مزيج من العوامل السياسية والطائفية، استمرت اللجنة بفحص هذه الأمور من أجل فهم دقيق لكل فرضية وتحديد احتمال الاستمرار فيها. ومع احتمال أن يكون مزيج من العوامل قد أثّر في دافع اغتيال الحريري، تفحص اللجنة بدقة احتمال أن يكون فريقان أو أكثر من المرتكبين قد تولى قسماً من إعداد الهجوم وتنفيذه». في الفقرتين 50 و51 ينصّ التقرير على أن عمل اللجنة «ركّز على تحليل هيكليات بعض المنظمات ويرى ذلك ضرورياً من أجل تقدم التحقيق بسبب دور هذه المنظمات في لبنان خلال الفترة التي سبقت الاغتيال». ويضيف التقرير أن «هذه الدراسة منحت اللجنة فهماً معمّقاً لتلك المنظمات» (الفقرة 51)، واللافت أيضاً هنا ذكر براميرتس لخصوصيتين متناقضتين ومتلازمتين في آن واحد قد تتميز بهما تلك المنظمات وهي هيكليتها الرسمية أو القانونية المعلنة (de jure) وهيكليتها الواقعية أو العملية (de facto)، إذ تنبّه المحقّق البلجيكي الى الفرق الواسع والمتناقض أحياناً بين المعلن والمفترض من جهة والواقعي والمخفي من جهة أخرى. إن أجهزة الاستخبارات العالمية تتميّز بهذا النوع من الازدواجية ما يسمح لها بالعمل بطريقة فعّالة، لكن تلك الازدواجية في الهيكلية قد تؤدي في بعض الحالات الى خروج الأمور عن السيطرة والى تدخلات في الأعمال الاستخبارية، وربما الى توظيف العمل الأمني في مشاريع وأنشطة تضرّ بالمصالح العليا التي أنشئت المنظمة لخدمتها. وفي الفقرة 52 ورد الآتي: «أجري عدد من المقابلات خلال فترة التحقيق مع عدد من المسؤولين السوريين واللبنانيين، أدّت إلى تأكيد فهم اللجنة لهيكلية بعض هذه المنظمات أو تطويرها، وقادت إلى تدقيق إضافي للجنة في أولوياتها التحقيقية».
ويبدو أن اللجنة تمكّنت من إحراز تقدم في الكشف عن مصير أحمد أبو عدس الذي ظهر ظهوراً إسلامياً أصولياً في شريط الفيديو الذي عثر عليه في وسط بيروت بعد اتصالات وردت الى مكتب تلفزيون الجزيرة، والذي اختفى ويعتقد أن وجهة اختفائه كانت الأراضي السورية.
فخلال الأشهر الأربعة الماضية «قامت اللجنة بـ16 مقابلة وعدد من التحليلات الجنائية والخطوات التحقيقية الأخرى، فتوصلت نتيجتها إلى فهم تفصيلي لنشاطات أحمد أبو عدس خلال السنوات التي سبقت الجريمة، وخاصة تلك التي أدّت به إلى إنشاء صلات مع شخص أو أكثر على علاقة بمجموعات متطرفة معروفة. وبالأخص، حصل تقدم في تحديد الشخص الذي يعتقد بأنه اختفى مع أحمد أبو عدس يوم 16 كانون الثاني 2005» (الفقرة 35). ويضيف التقرير أن اللجنة «لا تزال بانتظار نتائج فحوص مهمة، من المتوقّع أن تضيء أكثر على الصلات بين أحمد والأفراد المرتبطين به واغتيال رفيق الحريري» (الفقرة 36).
إن رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة سيرج براميرتس يتبع منهجية مهنية في التحقيقات الجنائية التي يقوم بها، وعلى هذا الأساس لا بدّ له من التدقيق في احتمال وجود علاقة بين الأصوليين الإسلاميين ومسؤولين سوريين، وذلك للأسباب الآتية:
1 ـــــ علاقات أبو عدس وتنقلاته تبين أنه مشتبه بدخوله الأراضي السورية بطريقة غير شرعية واختفائه هناك.
2 ـــــ عدد من الأصوليين الإسلاميين دخل الأراضي اللبنانية من طريق سوريا آتياً من العراق أو من المملكة العربية السعودية.
3 ـــــ جهاز الاستخبارات السوري كان الأكثر انتشاراً في لبنان خلال الفترة التي سبقت اغتيال الحريري.
4 ـــــ حادثة موت أحد أبرز قادة الجهاز الأمني السوري اللواء غازي كنعان بعد اغتيال الرئيس الحريري.
ولهذه الأسباب يدقّق براميرتس في علاقة محتملة بين أصوليين ومسؤولين سوريين، وهو متنبّه الى احتمال أنه إذا ثبت وجود علاقة ما تربط هؤلاء ببعضهم قد تسمح الهيكلية الاستخبارية لبعض المسؤولين بالتصرّف من خارج إطار الهرمية التي تتميّز بها المؤسسات الرسمية المتعارف عليها.