البقاع ـ نقولا أبو رجيلي
قبل أكثر من عشرين عاماً دمّر سارقو الآثار معبدَين رومانيين في بلدة كفرزبد البقاعية طمعاً في العثور على الذهب. كان يجب انتظار تقاعد حارس المعبد آنذاك ليروي تفاصيل التدمير المنظّم للموقع وإطلاع الرأي العام على حقيقة ما جرى وحرم كفرزبد احتلال مكان على الخريطة الأثرية للبنان

في أعلى التلة التي تفصل قرية كفرزبد عن بلدة تربل، كانت ترتفع بقايا قرية رومانية ومعبدين... لم يبقَ منها اليوم إلا بعض الأحجار المبعثرة. لم يكن الزمن من دمّر تلك القرية بهذه الطريقة «الوحشية»، بل طمع سارقي الآثار. هؤلاء دخلوا الموقع الأثري على ظهور جرافاتهم، ونبشوا الآثار الدفينة وقلبوا الأرض رأساً على عقب بحثاً عن كنوز لم يعثروا عليها، لأنها ببساطة غير موجودة.
يطلق أهالي كفرزبد (قضاء زحلة) على الموقع اسم «قصر بنت الملك»، وهو يبعد عن بيروت مسافة 60 كلم وعن مدينة زحلة نحو 12 كلم باتجاه الشرق.
في السابق كان الوصول إليه صعباً. وكان الأهالي يتسلقون مسافات طويلة ليجلسوا ويتمتعوا بالمناظر الخلابة التي يشرف عليها الموقع. أما اليوم، فقد استحدثت طريق جبلية تصل إلى مسافة قريبة من الموقع، حيث توجد هوائيات لتقوية إرسال بعض المحطات التلفزيونية المحلية، علماً بأن هذه الهوائيات قد تشكّل خطراً جديداً على الموقع الذي دُمّر في بداية الثمانينيات.
ولتدميره قصة، يرويها لنا أحد الحراس السابقين للموقع سليم سلوم (70 عاماً) وقد أحيل على التقاعد. سلوم عايش مرحلة «اكتشاف» الموقع مع علماء الآثار، وشهد بأمّ العين على عملية تخريبه وتدميره من دون أن يستطيع إيقافهم. يروي لأن تلك الذكريات الأليمة لا تزال تراوده.
يقول سلّوم إنه في شهر تموز من عام 1975، بدأت بعثة من المديرية العامة للآثار بعمليات تنقيب واسعة على الموقع. «كنا حينها نعمل على نقل معدات التنقيب على ظهور الحيوانات. كانت البغال والحمير تتقدم ببطء وتسير مسافة نحو 800 متر صعوداً لإيصال المعدات التي كان يستخدمها العمال والمختصون في علم الآثار».
قبل بدء التنقيبات، لم يكن يعرف من الموقع إلا سوره أو الحائط المبني من الحجر المنحوت الذي يرتفع عدة أمتار بطول 20 متراً، ما شكل سبباً لتسمية الموقع وعلى أجيال «قصر بنت الملك» من دون أن يكون هناك أي بناء هندسي آخر يشرح هذه التسمية. ولكن، مع استمرار الحفريات، تبيّن أن الموقع لم يكن قصراً، بل كان معبداً بدأت تظهر معالمه بعد مضي أسبوع واحد على التنقيباتوالمعبد الروماني الذي كشفته معاول العلماء يعود إلى أكثر من 2000 سنة «هذا ما أكدّه لي علماء الآثار الذين كانوا يواكبون الحفريات يومياً في حينه». بدأت الأعمدة تظهر، وكانت تنتشر على مساحة نحو 2000 متر مربع، بعض هذه الأعمدة كانت مكسورة ومنفصلة عن قواعدها المنحوتة بأحجام مختلفة، وكان العمل يجري بدقة متناهية.
ويذكر سلوم أن «أهم ما عثر عليه صخرة مستطيلة بشكل مكعب بطول مترين وعرض متر مجوفة ومحفورة في الصخر، يقف بداخلها شخص مرتدٍ ملابس تشبه تلك التي يرتديها الرهبان اليوم. وكانت تنقل بعض الأحجار والقطع الأثرية المهمة إلى المتحف الوطني في بيروت». وأشار سلوم إلى أن أعمال التنقيب استمرت نحو أربعة أشهر وتوقفت بسبب الحرب الأهلية. لكن هذا لم يمنع من انتشار خبر الاكتشاف الأثري للمعبد الروماني في كفرزبد، فكانت الوفود السياحية اللبنانية والأجنبية تأتي إلى الموقع. «من الزوار السفير الإسباني الذي أتى برفقة أكثر من 20 شخصاً، وكان طلاب الجامعات يزورون المعبد عندما كانت تسمح الظروف الأمنية بذلك».
انتهى «عصر الموقع الذهبي» في منتصف عام 1982 حينما أقدم مجهولون على استحضار جرافة كبيرة بقصد العثور على كنوز دفينة داخل المعبد، وعمدوا الى حفر أماكن عديدة وبعثروا الأعمدة عشوائياً، «حاولت أنا وزميلي الحارس الآخر منعهم من التخريب، فلم نستطع بعدما هددونا بالقتل بأسلحة حربية كانت بحوزتهم». الحلّ الوحيد كان إبلاغ القوى الأمنية اللبنانية والسورية «التي تجاوبت على الفور وأرسلت قوة من الدرك والمخابرات السورية وأوقفت الفاعلين عن أعمال التخريب بعدما كانوا قد أزالوا قسماً قليلاً من الموقع. لكننا فوجئنا بعد ثلاثة أيام بعودة هؤلاء مجدداً، وكان معهم الدعم «اللوجستي» المطلوب ليتابعوا عملية التخريب التي دامت حينها أسبوعاً كاملاً من دون انقطاع، ولم يتركوا المكان إلا بعدما أزالوا معالم المعبد بأكملها وسرقوا محتوياته وحطموا منحوتة الراهب. حاولنا إيقافهم، وتوجهنا إلى مكتب الآثار في البقاع وأعلمناهم بما يجري مجدداً على الموقع، فكان الجواب أنهم لا يستطيعون فعل شيء حيال ذلك. فعدنا حينها إلى الموقع لنشهد على تدميره بعدما كان اكتشافه لا يزال حديث العهد».
يؤكد سلوم أنه بعد عملية «إبادة» الموقع الأثري تلك، كان يحضر إلى المكان بأوقات متفاوتة العديد من الأشخاص، وبحوزتهم آلات لكشف المعادن يقومون بالبحث «عن الكنوز الدفينة» في أرجاء المعبد المبعثرة. ولم يتم التأكد من صحة المعلومات عما إذا كان البعض منهم قد عثر على بعض من قطع المعادن البرونزية أو أي قطع معدنية أخرى.
والمحزن أن عملية نهب الآثار تلك لم تقتصر على المعبد، بل طالت أيضاً المقابر المحفورة في الصخر التي تقع على بعد نحو 200 متر نزولاً، عند سفح الجبل. وكانت تلك القبور لا تزال تحتوي على بقايا عظام وقطع فخارية... فدخلها السارقون وهشموا ما كان بداخلها.
أما المحزن المضحك في آن، فهو أن قصة «كنوز» معبد كفرزبد لم تنته عند هذا الحد، إذ يبدو أن لتسمية «قصر البنت» أثراً سحرياً على المنقبين عن الآثار. فلا يزال المشعوذون يأتون إلى الموقع ويحيون مراسم وشعائر، ويقدمون الذبائح ويشعلون البخور «لاستحضار الأرواح» التي ستساعدهم على استخراج الذهب من داخل الأرض. وبالطبع، باءت جميع محاولاتهم بالفشل، فالموقع لم يكن يحتوي يوماً على ذهب ليخسره اليوم على يد اللصوص. فالمواقع الأثرية المنتشرة في القرى والجبال لا تحتوي على الذهب، حتى إن المدن لم تكن تحتوي على الذهب... فتلك مادة ثمينة لم يكن يملكها إلا كبار الملوك... وهذا ما يجب أن تعمل المؤسسات العاملة في هذا الإطار على التوعية به. بانتظار ذلك، تبقى تجربة سكان كفرزبد «أمثولة» لباقي القرى: فقد كان للقرية موقع أثري لو تمت دراسته بشكل علمي وموثق، ولو عمل على استثماره سياحياً لأعطى القرية دعماً سياحياً لم تعد تحلم به
اليوم.