strong>كامل جابر
  • طقوس «مصطنعة» تجذب اللبنانيين إلى «البلد»

  • ثمة تلازم وثيق بين طقوس شهر رمضان التقليدية المتوارثة في مدينة صيدا، وبين «صيدا القديمة» التي يطلق عليها أهلها تسمية «البلد». هذا التلازم هو ما يعطي لشهر رمضان في عاصمة الجنوب نكهة مميزة تتناسب مع «تهليلها» لهلاله، ويجعلها قبلة الصائمين والباحثين عن «بهجة» رمضان... ولو كانت مصطنعة

    لا يعرف الصيداويون الحديث عن شهر الصيام وطقوسه، من دون ربط كلامهم بـ«البلد». إذ لا تفاصيل تتناول ذكريات الشهر مع المدينة المنتشرة اليوم اتساعاً وطولاً وعرضاً في أحياء وحارات باتت تفصلها الأوتوسترادات الضخمة، من دون ذكر «صيدا القديمة»: منطلق العائلة الصيداوية الأولى المتجاورة بالفرح والترح، المتلاصقة بالسطوح والأبواب والشبابيك. هناك، من الطبيعي أن يصوم أهل البلد «الفقراء» معاً وأن يفطروا معاً، وأن تتشكل موائدهم من أطباق متبادلة بين الجيران... وأن يعيّدوا معاً. ولأنها لا تزال تحافظ على هذا النمط من العلاقات بين أبنائها، تقدّم «البلد» ميزة للشهر الفضيل في ربوعها.
    لكن ثمة تبدلاً واضحاً في يوميات الشهر ولياليه، بين الأمس واليوم. إذ بعد غياب «البهجة» العفوية التي كانت تفرض هالتها على مختلف التفاصيل، تغيب عن المدينة العتيقة مفردات صارت من حديث الذاكرة: الحكواتي، البرك والحمامات التركية، المسحراتية «العتاق»، «الزردة» والأجواء الحميمة في المقاهي الشعبية الداخلية، الصيداوية بامتياز.
    اليوم، صار الشهر في رمضان عبارة عن موسم سياحة «رمضانية» تترافق مع أيامه الثلاثين وأيام العيد وتشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاقتصادي لصيدا المدينة. تختلف أماكن حركة السياحة هذه باختلاف الفصول صيفاً وشتاءً. في الأول، تخرج إلى الواجهة البحرية ومقاهيها وأرصفتها، القريبة طبعاً من «البلد القديمة». وفي الثاني، تعود إلى الساحات الداخلية ومقاهيها وأزقتها، وفي الحالين، تغصّ ليالي الشهر بالقادمين إلى المدينة من الأحياء المختلفة ومن الجوار ومعظم المناطق الجنوبية ومن العاصمة بيروت، بيد أنها في كل الأحوال والفصول تدور في الحي القديم أو حوله.
    في هذه الأحياء لا يزال «مسحّراتي» صيدا القديمة يقوم بدوره وهو الذي ورث المهنة على أصولها الأولى: يخرج قبل كلّ فجر، يرتدي «قمبازه» ويحمل «عدّته» ويجول يطرق على «بازته» ودليله في الظلمة «فانوس» الكاز، أو ضوء القمر، المتسرّب أحياناً من بين ثقوب سطوح الأبنية المتلاصقة، وصوته يهدج: «كشفت حليمة على قبر النبي، نوّر؛ قالوا الصحابة اليوم شمعنا نوّر؛ إلك نور يا رسول الله سبحان الذي صوّر؛ لولاك يا حبيبي ما كان القمر، نوّر».
    المسحراتي الأوّل والأشهر في صيدا، كان «العكاوي» أبو طالب، ويلاقيه في محلة «القملة» درويش أبو سلطانية، ولا ثالث لهمابعد رحيلهما، شجّع بائع الفحم عبد الغني البابا زميله محمد موفق محمود فنّاس، وهو من مواليد عكا بفلسطين عام 1945، على لعب دور المسحراتي لأنه يتمتع بخبرة جيّدة، وهو خريج «الزاوية الرفاعية» وجليس حلقات الذِّكر ويحفظ القصائد والتواشيح الدينية ويضرب على الطبل والصنوج «صرت أخرج لوحدي أحياناً، وفي أحيان أخرى يساعدني عبد الغني البابا رحمه الله، وكنا ننادي الناس بأسمائها. اليوم أكتفي بترديد أبيات المديح في النبي وأجول في الحارات أطرق على البازة حتى يقوم الناس للسحور. ربما العديد منهم ليس بحاجة إلى مسحراتي، لكن له في نفوسهم أثراً يتعلق بالذاكرة والطرب للقصائد التي نتلوها»، يقول فنّاس.
    سحّر فنّاس في صيدا أيام «الـ10 قروش والربع ليرة» ولم يكن يجمع في أيام العيد أكثر من خمسين ليرة. أما اليوم «فالمردود لا بأس به. لكن رمضان أيام زمان كان أحلى، له رهجة وبهجة، تستعدّ له حتى الطرقات المطلية جدرانها باللون الأبيض استقبالاً له، بتحضير البرك والحمامات التركية. كم نشتاق إلى طعم الزردة الحلو، اليوم لم تعد موجودة بعد وفاة رائدها الصبّاغ».
    ثمة حزن هذا «الرمضان» يخيم على فناس القاطن في أحد زواريب صيدا القديمة. ومن يرد الوصول إليه ربما من خمسين «زاروباً». ومرد حزنه هجرة الناس للساحات القديمة والأزقة والمقاهي باتجاه الواجهة البحرية وأرصفتها «فصيدا القديمة في النصف الأول من شهر رمضان كانت خالية، ربما بسبب الصيف والرطوبة أو لأن البعض يخاف من هذه الأزقة الضيقة، أو بسبب ورشة التأهيل الدائرة في الأحياء القديمة؛ كلّها عوامل تساهم في انتقال طقوس الشهر إلى خارج صيدا القديمة، لكنها تبقى على مقربة منها».
    لكن هل يكفي طابع المدينة القديمة ليعطي لصيدا هذه الميزة؟
    يقدّم رئيس جمعية تجار صيدا وضواحيها علي عيد الشريف سبباً إضافياً وهو أن لصيدا طابعاً إسلاميا وتراثياً، وهي من أقدم المدن على البحر المتوسط، ما يحرص أبناؤها على إبرازه. «عملنا منذ نحو عشرين سنة، نحن جمعية التجار مع البلديات أيام هلال القبرصلي وأحمد الكلش، على أن تتولى هيئة مشتركة تزيين الشوارع والساحات ورفع اللافتات وإنارة الطرقات. ولأن المدينة أثرية وتتمتع بجاذب سياحي بحري وبحسن العلاقة مع الجوار ، بدأت تستقطب الزوار من مختلف المناطق، وهذا ما ساهم في تطور حركة المطاعم وانتشارها، مع انتشار المقاهي المفتوحة والمكشوفة، في الداخل والخارج، يواكب ذلك الأسعار المقبولة والمعتدلة ومن يدخل إلى المدينة يشعر بأنها أم الفقير».
    ولا ينفي الشريف تأثر مدينة صيدا بعاملين أساسيين انعكسا سلباً على الوضع الاقتصادي فيها وتسببا بحال من الركود: «الاعتداء الإسرائيلي الغاشم العام الماضي الذي ضرب الأسواق في صيدا والجنوب، وما زلنا نعاني من ارتداداته؛ وقبله اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما أعقبه من تجاذب سياسي مؤثر؛ رغم ما تبذله فاعليات المدينة، وفي مقدمها النائب بهية الحريري لأن تتفادى صيدا الدخول في غماره. ونحن نقيم اليوم احتفالات ونحيي ليالي القدر برعاية لجنة المتابعة اللبنانية الفلسطينية وبالتعاون مع جمعية التجاريحنّ الشريف إلى رمضان قبل 40 سنة «كانت له نكهة مميزة، لم تكن الاحتفالات بهذا الاتساع، لكنها كانت على حجم أهل المدينة؛ الزينة من الورق، ومن أغصان شجر الموز التي نضعها على الأبواب؛ العلاقات كانت مميزة والناس كانت مرتاحة أكثر. اليوم فتحت المقاهي وتحركت العجلة الاقتصادية والسياحية في آن معاً، مع تأمين متطلبات الوافد إلى المدينة: مضافة، كورنيش جيد، ومناطق سياحية. كلّ ما يجري ضمن ضوابط أخلاقية ومدينة صيدا لها طابع إسلامي غير متزمت، بل هي مدينة منفتحة، وخصوصاً إذا أطلقنا الشعار السياحي».
    ويجد الحلاق حسين أبو زينب أن «رمضان أيام زمان كان أحلى في صيدا؛ سهر الليالي لم يكن على هذا النحو، كان غير مصطنع. ينزل الناس إلى المقاهي، يدخن البعض النراجيل، يستمع البعض الآخر إلى الحكواتي الذي لم يعد له اليوم أي بديل، ثم تنام الناس لتستيقظ على صوت المسحراتي؛ أما اليوم فالكلّ يسهر أمام شاشات التلفزة يتابع المسلسلات ويبقى على هذه الحال حتى السحور».
    ويذكر بما كانوا يحضرونه في الماضي من مأكولات ومشروبات خاصة مثل «القزحة، المشهورة في رمضان صيدا لأنها من حبة «البرَكة» ومفيدة صحياً، وكانت معظم بيوت المدينة تحضرها؛ كما كان الجيران يتبادلون الطبق اليومي، حتى تصير بعض الإفطارات متشكلة من أطعمة مختلفة، ويصبح كل الناس سواسية. هناك عادات وأشياء انقرضت، ودخلت عادات وأطعمة جديدة». ويؤكد أبو زينب أن ما يجري من مظاهر احتفالية وسهرات جامعة في صيدا «يعود لجهد النائب أسامة سعد ورئيس البلدية عبد الرحمن البزري اللذين أطلقا هذه المهرجانات الليلية منذ أكثر من أربع سنوات من داخل صيدا القديمة ثم بدأت تتسع وتنتشر».
    ولأن شهر الصيام مميز في صيدا، التي استقطبت منذ نكبة فلسطين عدداً كبيراً من النازحين الفلسطينيين إليها والعاملين لاحقاً في دكاكينها وبساتينها، كان بديهياً أن ينقلوا معهم بعض العادات وصناعة الحلويات والأطعمة، فضلاً عن الحلويات التي تتميز بها المدينة وتنسب إلى أهلها.
    ويتذكر مكاوي «الزينة المميزة أمام بعض محلات صيدا، يأتون لها بالرمل ويفرشونه أمام أبواب المحال. صيدا القديمة كانت عاصمة رمضان، وفي الاحتفالات، كان الناس يحملون القناديل البحرية ويتوجهون نحو الساحة حيث يجري اللعب «بالسيف والترس».
    اما اليوم يكاد البعض يبحث عن موطئ قدم في صيدا ومقاهيها بسبب الازدحام الشديد الذي تعاني منه في ليالي رمضان، وخصوصاً أيام العطلة الأسبوعية والأيام الأخيرة من شهر رمضان. ويغص الكورنيش البحري، المحكوم بالأضواء المختلفة، على امتداده، بالرواد والجالسين تحت المظلات المفتوحة، وكذلك الطرقات المزدحمة بالسيارات.



    حنين إلى الحكواتي

    لا يزال أبناء صيدا يتمتعون برؤية «المسحّراتي» الذي اعتادوا عليه، لكن أكثر ما يفتقدون إليه الحكواتي الذي كان يحيي لياليهم ولم يجدوا ما يعوّض عنه إلى اليوم حتى التلفزيون.
    يذكر غالب مكاوي الحكواتي «أبو أحمد» الذي كان يجلس في «قهوة البابا» يومياً، ويبدأ بتلاوة فصول «سيرة الزير وعنترة». ويذكر أن عدداً من أبناء صيدا غضبوا ذات ليلة من الحكواتي لأنه سجن مرة «أبو زيد الهلالي» في الحكاية، فتوجهوا لاحقاً إلى بيته وأيقظوه من نومه، ليطالبوه بالإفراج عن الهلالي». لكن صيدا اليوم مختلفة «كأنها لم تعد صيدا، اتسعت وسكنها ناس من مختلف الملل والمناطق حتى أضحى سكان البناية الواحدة لا يعرفون بعضهم بعضاً».
    يذكر أن مدينة صيدا عرفت خمسة «حكواتية» على مدى قرن ونصف قرن من الزمان، كان آخرهم الحاج ابراهيم الحكواتي الذي توفي سنة 1981. ولم يبق من الحكواتي في صيدا إلا اسم عائلة من أبرز العائلات الصيداوية حالياً حمله قديماً أحد أبناء عائلة السروجي الذي عمل حكواتياً.