جان عزيز
لم يعد سرّاً أن التباينات داخل فريق الموالاة تخطّت احتمال أن يكون الأمر توزيع أدوار، أو مناورات تكتية متفقاً عليها. لا بل بات معروفاً، وثبت أكثر في اجتماع قريطم اول من أمس، أن هناك أكثر من وجهة نظر فعلية داخل الطرف الأكثري الواحد، وأن بعض المسائل موضع التمايز، جوهرية أساسية، بدليل أنها تتناول الأشخاص ومواقفهم في آن واحد.
أصلاً، حتى اول من أمس كان السؤال مطروحاً جدياً في الأوساط المعارضة، وفي بعض الأوساط الدبلوماسية المتابعة للملف اللبناني: ما هو الموقف الفعلي لفريق الموالاة من القضايا المركزية المكوّنة للأزمة الراهنة؟.
وكانت جردة هذه القضايا تكرّ طويلة: ما هو الموقف من سلاح حزب الله؟ ما يقوله وليد جنبلاط، أم ما يعلنه فؤاد السنيورة، أم ما يصمت عنه سعد الدين الحريري، أم ما ورد في رؤيتي مرشحي الموالاة، نسيب لحود وبطرس حرب، حول الموضوع؟ ما هو الموقف من العلاقة مع سوريا البعث والنظام الحالي؟ ما قاله الحريري إلى فوكس نيوز، أم ما يقوله السنيورة للسفراء في بيروت، أم ما يؤكده السفير السعودي للجميع؟. والتساؤلات المنطقية نفسها تطال الموقف من إيران ومن النصاب الدستوري للرئاسة ومن ميشال عون... حتى آخر المسائل الراسمة لصورة الأزمة. وكان تشكيك بعض الأخصام من جهة، وروح العصبية لدى الفريق الموالي من جهة أخرى، يتركان المجال الواسع للاعتقاد بأن القضية لا تعدو كونها تكتيكاً ومناورات وتوزيع أدوار. حتى جاء اجتماع قريطم اول من أمس، ليكشف حقيقة أخرى: نعم هناك تباين جذري داخل أطراف الموالاة. لا بل يمكن القول إن ثمة رأيين أساسيين يسيطران على ساحة النقاش الأكثري.
الرأي الأول، يمثّله إعلامياً على الأقل، مرشحا فريق 14 آذار الرسميان، بطرس حرب ونسيب لحود، لكنه يضم فعلياً أكثرية الشخصيات النيابية غير الحزبية داخل الموالاة. وهذا الرأي يستند عملياً إلى مقولة إن الذهاب في المعركة ضد حزب الله حتى النهاية، يقتضي توافر شرط أساسي وضروري، هو دخول المحور الأميركي ـــــ السعودي مع كل حلفائه في المنطقة من الشمال إلى الخليج والجنوب، في حرب شاملة ضد إيران وسوريا. وفي غياب مثل هذا الشرط، لا يمكن فريق السلطة في بيروت أن يشن حرباً نهائية على الحزب بمفرده، لأنها ستكون لاستخدامات غير لبنانية، تماماً مثل الحرب اللبنانية الأحادية ضد إسرائيل، في زمن الوصاية السورية. وفي المقابل، يتابع الرأي نفسه، أن التسوية مع حزب الله، على طريقة إعادة إحياء التحالف الرباعي رئاسياً، تقتضي شرطاً ضرورياً آخر، هو التفاهم الثابت بين محور واشنطن ومحور طهران، والذي يستوفي تأييد كل حلفاء العاصمتين. وإلاّ فإن هذه الخطوة البتراء في غياب تفاهم كهذا، ستجعل تحالفاً كهذا بين نارين مسيحية داخلية، وسورية خارجية، تؤديان إلى سقوطه سريعاً. وعلى هذا الأساس، يقول أصحاب هذا الرأي بمقاربة الاستحقاق الرئاسي على قاعدة رئيس من 14 آذار، وبرنامج من إنتاج توافق وطني في أوسع إطار ممكن. بمعنى أن تقبض الموالاة في الشخصي، وتدفع في السياسي، في انتظار تبلور الأمور في المنطقة. غير أن الرأي الآخر داخل الموالاة، كان اول من امس في قريطم أكثر صراحة ونبرة عالية. يقول أحد أبرز أصواته: إن معادلة التوافق على رئيس كهذا، برنامج وسطي مثل المطروح من مرشحي 14 آذار، تعني عملياً إعادة تجربة العام 1976، معكوسة الأدوار والمواقع. يومها قبِل بشير الجميل بالياس سركيس رئيساً مدعوماً من سوريا، مع برنامج حكم عاجز عن إيجاد الحلول، ومكتفٍ بالتالي بإدارة الأزمة. وكان بشير يراهن على هذه التسوية بالذات، لتجعله بعقمها وفشلها رجل لبنان القوي ومحط آمال الناس، والقادر عملياً على ابتلاع الدولة في غضون ستة أعوام... وهذا ما حصل.
اليوم، يتابع الركن نفسه، نأتي نحن لنفرض على حزب الله تسوية مماثلة، رئيساً من فريق خصم له، مدعوماً من أطراف خارجية مناهضة له ولوجود سلاحه، لكنه لا يحمل أي حلول حقيقية، بل مجرد تسويات وسطية قد لا تكفي حتى لإدارة الأزمة. وفي هذه الحال سيبادر حزب الله إلى القبول، وسيراهن على قوته في مقابل ضعف الآخرين، وعلى طاقته التعبوية في مواجهة فشل الآخرين، ليبتلع دولتنا الآتية في ستة أشهر، لا ستة أعوام كما كانت الحال مع بشير الجميل.
ويعترف الركن نفسه، بأن رفض تكرار سيناريو 1976، لا يعني أن هناك مَن يتوهّم تكرار سيناريو 1982، فلا «دبابات دايرة» لدى أحد، ولا «مئة ألف عسكري مارينز» في جهوزية تامة قبالة الشاطئ. غير أن ذلك لا ينقص من صحة الطرح القائل بضرورة رفض الذهاب أبعد من نصف الطريق. ونصفها يعني تحديداً معادلة الضمانات لحزب الله، لقاء الدخول في دولة واحدة. لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن نصف الطريق هذا، لا يزال يتجسّد لدى الموالاة، في أكثر من صيغة. منها ما طرح في قريطم أيضاً، عن ضرورة انتظار نتائج زيارة واشنطن. فإذا كانت أجواء العاصمة الأميركية تنذر بتغيّرات حتمية أولاً، ووشيكة ثانياً، وقابلة للاستثمار الإيجابي المؤكد ثالثاً، يمكن حينها للموالاة تغذية رهانات التصلّب. وإذا لم تكن مناخات واشنطن كذلك، يُعاد العمل بسلوك سبيل التسويات. ومن صيغ نصف الطريق نفسه، التحاور مع ميشال عون، لكونه يجسّد في شخصه وطرحه، الجمع بين الضمانة لحزب الله، وتأكيد مبدأ قيام الدولة الواحدة. لكن دون هذه الصيغة عقبات الحساسيات الشخصية والحسابات الفردية، وتركة الأحقاد الموروثة والمتراكمة والمغذّاة لحظة بلحظة.
بين الرأيين، أيّ وجهة نظر ستنتصر؟ وبين رفض سيناريو رئاسة الـ76، واستحالة سيناريو الـ82، هل يكون سيناريو فراغ الـ88 هو النتيجة، تمهيداً لإعادة البلاد، لا إلى ما قبل نهاية الحرب، بل إلى ما قبل بداية الدولة؟.