نادر فوز
يختبئ وراء نظّاراته السبعينية، وخلفها تتخفّى سنوات طويلة من النضال في سبيل العلمانية، لم ينهكها النظام الطائفي ولا سقوط الإيديولوجيات. يقف اليوم أمام طلابه في كليّة الإعلام والتوثيق ــ 2 في «اللبنانية»، يرى تدهور «حركتهم» وتراجع مستواهم الأكاديمي

يجلس رجل في العقد السادس من العمر، يشعل سيجارة، يستعدّ أمام عدسة الكاميرا، يحضّر سريعاً في ذهنه بعض الملاحظات، يبادر إلى طرح الموضوعات والقضايا الخاصة بالجامعة اللبنانية. يسهل طرح الأسئلة ومناقشتها مع الدكتور جيروم شاهين، إذ تشعر أنّه يقبل كل ما تقوله بهدوء ليعود ويؤكّد أو ينتقد ما طرحته بشكل علمي وواقعي. تسمح له ثقافته ومجالات دراسته المتعددة بدءاً من اللاهوت إلى الآداب فالعلوم الاجتماعية، إضافةً إلى خبرته الطويلة في مجالي الصحافة والتعليم، بإحاطة إجاباته ومعالجتها من النواحي كافة.
بدأ جيروم، المولود في بلدة دوما (البترون) عام 1941، دراسته في مجال الفلسفة الكنسية، فنال إجازة في اللاهوت عام 1965 بعد دراسة أربع سنوات في الجامعة اليسوعية، ليُرسم بعدها كاهناً. لكن بعد دخوله «مدرسة الآداب العليا في بيروت»، التابعة لجامعة ليون 3، ذات المناخ اليساري، اختار الانجرار مع موجة «الجيتان واللحى». تأثر بماركس وفرويد ونيتشه «لكنّني لم أتخلّ عن إيماني، لا بل على العكس»، يقول شاهين رافضاً الخلط بين مسألتي اليسار والعلمانية والإلحاد.
عن ذلك التحوّل الفكري، يعتبر شاهين أنّه ككاهن كان وعيه السياسي «مطموساً جداً، محافظاً وتقليدياً يمينياً». فيقول «لم أرد أن أبارك البنادق»، مشيراً إلى أنّ الحرب اللبنانية وما سبقها جعله يعي أنّ دوره «الاجتماعي الكنسي ككاهن يتناقض مع انتمائه السياسي».
في الفترة نفسها، شارك في تأسيس مجلة «آفاق»، ذات «الهوية العربية العلمانية التي تدعم القضية الفلسطينية»، وصدرت في بيروت عام 1974، وشغل منصب رئيس تحريرها.
نال جيروم عام 1975 الجدارة في الفلسفة من «الآداب العليا»، ليتوجه بعدها إلى معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس ويحصد دبلوماً في الدراسات المعمّقة في العلوم الاجتماعية عام 1976.
وعمل بين عامي 1978 و1979 في «معهد الإنماء العربي» في بيروت. إلا أنّه عاد إلى فرنسا من جديد ليكتب في «لو موند» وغيرها من الصحف الفرنسية. وخاض بعدها «مغامرة» صحافية جديدة عبر مجلة «كل العرب» التي أسسها ورئيسها ياسر هواري، فعمل فيها بين عامي 1982 و1986.
يتحدث جيروم عن صعوبة معايشة الحرب الأهلية عن بعد. فتحدث عن التهديدات التي تعرض لها من «متطرفين وأصوليين مسيحيين»، إذ إنّه كان، ولا يزال، مع غيره من «الرفاق» يحاولون طرح العلمانية والانفتاح المسيحي على جميع الطوائف وجميع القضايا العربية المحقّة. إلاّ أنّ التهديدات لم تثنه عن متابعة نضاله، فعالج «العلمنة عند الكتّاب المسيحيين في عصر النهضة العربية (1860-1975): علاقتها بالغرب ومشروعها الاجتماعي». برهن شاهين أنّ مفهوم العلمنة الذي طرحه مسيحيو عصر النهضة مرتبط بالغرب ولا يمكن أن يتماشى مع «الإسلام»، فحاز عام 1988 دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية بدرجة «مشرّف جداً».
في عام 1992، عاد شاهين إلى لبنان على رغم حصوله على الجنسية الفرنسية «أي إمكانية العيش»، فدرّس الثقافة الإسلامية والمسيحية في جامعة البلمند حتى عام 1999، وتعاقد مدرّساً مع كليّة الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية التي يستمرّ فيها حتى اليوم على رغم بلوغه سنّ التقاعد. لم تكن سنوات «خدمته» في «اللبنانية» كافية لتمكينه من الحصول على راتب تقاعد وتسجيله في صندوق التعاضد، وفي حال توقفه عن التدريس سيفقد الضمان الاجتماعي، لذا جدّد جيروم شاهين عقده في الفرع الثاني لكليّة الإعلام وبدأ التدريس في جامعات ومدارس أخرى.
في ما يخص الجامعة اللبنانية، لا يتردّد جيروم عن وصفها بـ«المظلومة التي لا تنال حقّها سواء أكان بالنسبة إلى أساتذتها أم طلابها». الجامعة، بحسب شاهين، «على شاكلة الدولة» تتخبّط في التجاذبات والتدخلات والمحاصصة السياسية والطائفية، ومن أكبر سيّئاتها «البيروقراطية العثمانية» التي تعشّش في جهازيها الإداري والتربوي.
وعلى رغم ذلك، يدافع شاهين عن «مؤسسته»، فيعتبرها الأفضل بين المؤسسات التعليمية الأخرى ويحمّل أساتذتها مسؤولية تفريخ الجامعات الخاصة وتدهور المستوى التعليمي في الجامعة اللبنانية. «ليس هناك من رقابة على الدكاترة، وكلٌ منهم يقدّم مادته كما يراها مناسبة» يقول جيروم، ويدعو إلى أن يجري الطلاب تقويماً للأساتذة كما في الجامعات الخاصة.
من جهة ثانية، يشير شاهين إلى تراجع مستوى الطلاب على مرّ السنوات، و«ربما يعود السبب إلى حالة التراجع الثقافي التي يعيشها لبنان والعالم العربي».
ينهي جيروم حصصه، يعود إلى منزله لينشغل بالمقالات والكتابة، متحاشياً خوض النقاشات السياسية مع الطلاب وزملائه، «في الماضي كنت أعبّر عن رأيي بحرية، أما اليوم فأنا أخشى ذلك».
لم يفقد شاهين حلمه في تغيير المجتمع، فيصرّ على نشر مشروعه العلماني، بأسلوب غير مباشر، عبر متابعة التعليم وفتح نقاش محدود وغير معلن مع عدد من طلابه.