strong> هاني الخطيب
  • حيث يتمنّى الجميع لو يطول الشهر عاماً كاملاً... من دون صيام

  • تشتهر طرابلس بأنها المدينة التي تنام باكراً. لكن ليس في شهر رمضان، حيث تنقلب الآية وتصبح الفيحاء مدينة لا تنام، لا فرق فيها بين ساحة وزقاق وحارة. كأن بركة هذا الشهر تأبى إلا أن تُخرج هـذه المدينة وأهلها من سباتهم، وتمنحهم خصوصيات عدة تجعل «رمضانهم» مختلفاً

    في الأيام العادية، يتندر شباب طرابلس على مدينتهم بالقول إنه «بعد الساعة السادسة، لا تعود ترى أحداً في الشوارع، الكلّ نيام»، إذ تخلو الشوارع الرئيسية إلا من قلّة عابرة، وتكون أسواقها الداخلية مقفرة... تبدأ دورة الحياة فيها وتنتهي في أوقات محددة.
    أما في شهر رمضان، الأمر يختلف. لا تعود تعرف متى تبدأ هذه الدورة ومتى تنتهي، حتى يخال المرء أن بدايتها هي أول الشهر، ونهايتها في العيد، قبل أن تعود المدينة مجدداً إلى سباتها الطويل. وكأنّ أهل المدينة متفقون على منعها من النوم في هذا الشهر، الذي لا تغيب فيه الحياة عن شوارعها وباحاتها وأسواقها وحاراتها ومساجدها ومدارسها الدينية، وزواياها التي يعيد شهر رمضان إليها أهل الذكر والدعاء...

    زيارات دينية

    يبدأ صباح طرابلس مع ساعات الفجر الأولى، حيث يعود كثيرون إلى تأدية الصلاة في المساجد أكثر من باقي أيام السنة. وتعدّ صلاة العصر محطة رئيسية ثانية تعقد بعدها حلقات تلاوة القرآن، أو الأحاديث الدينية التي يقدمها أئمة المساجد، أو الزوّار من رجال الدين الذي يقصدون طرابلس في هذا الشهر. فكثيراً ما تصادف رجال دين من مصر في مساجد المدينة التي تتقاسم مع القاهرة الآثارات المملوكية الأهم في حوض المتوسطوهذه عادة قديمة في طرابلس، كما يقول المؤرّخ الدكتور عمر تدمري: «الكثير من المقرئين يقصدون طرابلس خلال شهر رمضان، بدعوة من الجمعيات الأهلية والأوقاف، فيأتون ويقرأون القرآن في مساجدها، بالإضافة إلى دعوة بعض الدعاة من مصر والسعودية وسوريا..».
    هكذا يمكنك أن تلتقي في مساجد المدينة مقرئين عرباً، منهم على سبيل المثال شيخ قرّاء الإسكندرية الشيخ أحمد محروس البحيري، ونقيب مقرئي الإسكندرية الشيخ سليم علي أحمد، اللذين شاركا، مع عدد آخر من رجال الدين، في احتفال أقيم في جامع القرطاوي بك الملحق بالجامع المنصوري الكبير.
    في الوقت نفسه في الخارج، تغصّ محالّ الحلويات في المدينة بزبائنها، وصولاً إلى الغروب، موعد الإفطار... حيث تتوقف الحركة في طرابلس ويعمّ السكون. فالجميع في المنازل لتناول ما لذّ وطاب من كرم إفطار شهر رمضان، وما أكثرها في الفيحاء.
    بعد تناول الإفطار، يعود الناس إلى حياتهم، فمنهم من يقصد الميناء ليأخذ قسطاً من الراحة عبر المشي ومحاولة هضم ما تناوله، وآخرون يقصدون المساجد حيث يؤدون صلاة العشاء وبعدها التراويح. وللأخيرة قصتها مع شباب المدينة قبل كبارها.
    فمثلاً أحمد أحمد (24عاماً) قرر تغيير المسجد الذي كان يصلي فيه بعد أول يوم من شهر رمضان، لأن «الإمام يطيل الصلاة والركوع والسجود والدعاء. حتى تصل إلى آخر الصلاة وأنت منهك». أما صديقه مازن، فبات يطّلع يومياً على الورقة التي يضعونها على باب المسجد، حيث يكتب اسم الإمام الذي سيؤم صلاة العشاء والتراويح من كل ليلة على مدار الأسبوع، «فأقرر كلّ يوم أين أصلي وفقاً للإمام». الخيار لم يكن صعباً على إبراهيم الذي يصلي في الميناء، «أقرب شيء للقهوة، حيث اتفق مع الشباب للملاقاة، وهكذا أخرج من الجامع وأنا أعرف أن الشباب في انتظاري».
    الشباب في انتظار إبراهيم حيث النرجيلة ولعب الورق، إما على الكورنيش وإما في المقاهي، والأخيرة مقصودة من العائلات أيضاً، ومن مختلف طوائف المدينة.
    «الأولاد يحبون المجيء إلى هنا لتناول الحلويات والمثلجات ليلاً، وخصوصاً أننا لا نزال في الصيف»، يقول محمد، رب عائلة، الذي لا يخفي أن من أهم عوامل الجذب إلى المجيء «هو عدم الغلاء في هذه الأماكن، حيث يمكننا أن نأتي ونذهب من دون أن تكلفنا السهرة مبلغاً كبيراً».

    من الحكواتي إلى الكعك

    والسهر في طرابلس لا يقتصر على الميناء. فمنطقة باب الرمل حيث مقهى موسى الشهير والحمام الجديد، كانت تشتهر قبلاً بمقاهيها، «كان الحكواتي مقصد الجميع»، كما يقول الدكتور تدمري: «ومنذ عشر سنوات تقريباً، استُحدثت أفران الكعك التي تجتذب الناس اليوم».
    وبالفعل، فقد أصبحت منطقة باب الرمل مقصداً للناس لقضاء السهرة، وأيضاً لشراء الكعك على السحور، كما أصبحت مقصداً للعائلات والشبان... ولهذه المنطقة طقوسها، ولا سيما في صنع كعكة السحور، التي يروي وليد مراد، أحد عمال الأفران، طريقة صنعها بلغته المحببة، خاتماً: «ما في مشكلة إذا اشتريت الكعك من فرن آخر وتناولتها هنا، الكل واحد في المنطقة».
    ويوضح جواد ياغي، صاحب أحد محال بيع الجبن في المنطقة، «في شهر رمضان، تزيد حركة البيع أكثر من الثلثين، أي ستين في المئة. ونفتح حتى ساعات الصباح الأولى». ياغي الذي يقول إنه في باقي أيام السنة لا يفتح حتى السادسة مساء، يبدي عتبه علىالدولة «الغائبة عن الاهتمام بهذا المكان، حتى الإضاءة نحن من قام بوضعها». بعيداً عن الشكاوى، فإن ما يقوله وليد وجواد تؤكده الوقائع هنا. فالطقوس لا تتغير، وإن كانت النارجيلة لا تغيب عن أغلبية الطاولات بالإضافة إلى لعب الورق.
    يصف عبد القادر حروق الأجواء في شهر رمضان بالرائعة «في منطقة باب الرمل وطرابلس عموماً». في حين ينفخ صديقه عبد الواحد الأسعد دخان نرجيلته بحزن وهو يتحدث عن أن هذه الأجواء «تنتهي مع انتهاء شهر رمضان، فلا تعود ترى هذه العجقة هنا». وإن كان يأمل أن تتواصل هذه الأجواء بعد هذا الشهر المبارك. طوني إلياس يأتي خصيصاً لشراء الكعك. «في شهر رمضان، للكعك لذة خاصة لا تكون في باقي أشهر السنة، وأيضاً لا تفتح الأفران هنا إلا صباحاً في باقي الأيام، وإن أتيت لن تجد من يبيع الجبن أو هذه الطقوس التي تنفرد بها هذه المنطقة»، ويردف: «ياريت كل السنة رمضان».
    تمنٍ يرد أيضاً على لسان مصطفى منصور، عامل أحد الأفران الذي يقول إن «العمل في شهر رمضان له متعة أكثر من باقي الأيام. كما أن الزبائن لا ينقطعون عن هذه المنطقة طوال أيام الشهر من مختلف المناطق، بينما يقتصر الأمر في باقي أيام السنة على أهل المنطقة فقط».
    يصمت فادي (30 عاماً) طويلاً عند السؤال: ما رأيك لو كان شهر رمضان على مدار السنة؟ قبل أن يستدرك: «بالتأكيد، شيء جميل أن يكون على مدار السنة، ولكن لا أحد يستطيع الصيام كل العام.. يا زلمي الله رحمنا وعملو شهر، ليه بدك تعملوا سنة؟»، ويختم بضحكة عالية!!

    تحضيراً للعيد

    من باب الرمل، تستطيع الدخول إلى الأسواق الداخلية، حيث الحركة لا تهدأ، إذ تفتح المتاجر أبوابها لاستقبال الزبائن، وخصوصاً بعد الخامس عشر من شهر رمضان. «فالزبائن يأتون من طرابلس ومن عكار لشراء ثياب العيد»، يقول سليمان عامل في أحد محال بيع الملابس. والسير في أسواق طرابلس الداخلية، خير دليل على ذلك. فالأسواق تضجّ بالناس من كل المناطق الشمالية، وتعرفهم من لهجاتهم المتنوعة. وإن كان مصطفى الشيخ، وهو أحد أصحاب محال الثياب، يبدي بعض الخوف على الموسم هذا العام، «فشهر رمضان يأتي بالتزامن مع شهر المونة، وأيضاً مع المدارس.. العام الماضي كان إعفاء من رسوم التسجيل، أما هذه السنة فعلى الجميع أن يدفع الرسوم وثمن الكتب والمونة، بالإضافة إلى أن شهر رمضان الفضيل فيه مصروف كبير». إلا أنه يأمل في أن تسهم «بركة هذا الشهر في التغلب على هذه المصاعب، وأن يكون الموسم جيداً من دون أن نغفل عن أن زبائننا في عكار عانوا هذه السنة من مشكلة المخيم، وبالتالي فإن أعمالهم لم تكن جيدة. لكن إنشالله يكون فيه شغل»!!
    عجقة الأسواق لا تخف إلا فجراً بعد السحور، مع توجه الناس إلى منازلهم أو إلى المساجد لتأدية صلاة الفجر، حيث يسلّمون أمانة النهار لمن سيحملها ويحافظ على روح الحياة النابضة في هذه المدينة...



    الأثر الشريف

    يوضح المؤرخ الدكتور عمر عبد السلام تدمري أن الظاهرة التي تنفرد بها طرابلس عن غيرها من المدن العربية والإسلامية، هي زيارة الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير.
    هذا الأثر هو شعرة من لحية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يتزاحم المؤمنون لتقبيله والتبرّك به مرتين فقط في آخر يوم جمعة من شهر رمضان. المرة الأولى عقب صلاة فجر يوم الجمعة، والمرة الثانية عقب صلاة ظُهر الجمعة مباشرة.
    وكان السلطان العثماني «عبد الحميد الثاني» قد قام بإهداء هذا الأثر إلى مدينة طرابلس، مكافأةً لأهلها على إطلاق اسمه على الجامع، الذي كان قديماً يُعرف بجامع التفاحي، وقد تعرّض للخراب. وعندما أعاد الطرابلسيون بناءه، بمساعدة من السلطان، أطلقوا اسمه عليه، فأصبح يُسمّى «الجامع الحميدي». واتفق علماء المدينة، بعد التشاور فيما بينهم، على أن يضعوا هذه الهدية في الجامع المنصوري الكبير، لكونه أكبر جوامع طرابلس، ولوقوع الجامع الحميدي في ظاهر المدينة. فأقيمت حجرة تحت الرواق الغربي من الجامع، وُضعت فيها الشعرة الشريفة، وأصبحت تُعرف بغرفة الأثر الشريف. والجامع المنصوري الكبير، الذي بناه السلطان الكبير المنصور قلاوون سنة 1294م، يعدّ من أعظم مساجد طرابلس وأكبرها، إذ تناهز مساحته ثلاثة آلاف متر مربع.
    ويقوم مفتي المدينة بنفسه بحمل العلبة التي توضع فيها الشعرة، وهي معطّرة بالمسك، ويتقدّم الزوّار منها فيقبّلونها تبرّكاً، بدءاً بالرجال، ثم تليهم النساء، ويقف العلماء بجانب المفتي، ويصدح المنشدون بمدائحهم النبوية، ولا تزال هذه الزيارة معمولاً بها إلى
    الآن.