عرفات حجازي
رغم المناخات الإيجابية التي أشاعتها جولات الحوار في مرحلته الأولى وإصرار الرئيس نبيه بري على مواصلة جهوده لتوفير أجواء مواتية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يفتح طريق المعالجات للقضايا السياسية الكبرى، بدا من المبكر توقّع نتائج حاسمة وعملية لحركة المشاورات المفتوحة على كل الخطوط قبل بلورة الاتجاهات الإقليمية والدولية، وبخاصة الموقف الأميركي الذي سيحاول زعيم الأكثرية النيابية سعد الحريري استكشاف ملامحه في زيارته المفصلية غداً للولايات المتحدة.
إلاّ أن القراءة في الوقائع والتطورات على مستوى الداخل اللبناني تظهر أن منذ 25 أيلول، لحظة انطلاق المشاورات حتى الآن، ليس بقليل، بل يمثّل نقلة نوعية وأرسى أرضية صلبة يتم البناء عليها لإنقاذ الاستحقاق الرئاسي والوفاء به في موعده الدستوري. ويمكن تلخيص ما أسفرت عنه اللقاءات المتتالية في النقاط الآتية:
أولاً: الاختراق الأساسي الذي تم تسجيله هو إعادة ترميم جسور الثقة بين بعض الأقطاب الأساسيين، ولا سيما بين بري والحريري بعد أشهر من القطيعة، وقد عبّر الرجلان عن ارتياحهما ورغبتهما في تعميق العلاقة والتقارب من غير أن يكون ذلك على حساب حلفاء كل منهما، وهو الأمر الذي سمح بطرح الهواجس والمخاوف من دون أي مواربة لأن المصارحة والمكاشفة تفتحان باب التعاون لتبديدهما.
ثانياً: الحوار الذي انطلق بين بري والحريري بتفويض من الموالاة والمعارضة لا يعني إلغاء أو تجاهل باقي القوى السياسية أو التقليل من أهميتها ودورها، بل اختصاراً للجهد والوقت مع مرونة في الحركة والاتصال. واللقاءات التي جرت بينهما كانت مفتوحة وستظل مفتوحة على مشاورات مع القادة الفاعلين على الضفتين مع إطلاع سيد بكركي على الخطوات التي تنجز ويتم التفاهم بشأنها، وذلك انطلاقاً من حرص الطرفين على الوقوف على نصائح سيد بكركي وتوجيهاته، وإرسال رسائل تطمين إلى المسيحيين بأنهما جادان في إنجاز الاستحقاق الرئاسي والحؤول دون الوصول إلى فراغ يدفع بمزيد من هجرة الشباب إلى الخارج وعدم السماح بإحداث مواجهات سياسية حادة قد تتسبب بتوترات واهتزازات أمنية تشعل الفتنة التي يتجنبها الجميع.
ثالثاً: هناك قناعة مشتركة بدأت تترسخ يوماً بعد يوم، أن لا مصلحة لأي طرف ولا لأي طائفة ولا لأي محور بعدم إجراء الانتخابات الرئاسية، وأن من مصلحة الجميع في ظل الانقسامات الحاصلة أن يكون إمرار الاستحقاق على أساس توافقي وتنازلات متبادلة من الطرفين، لأن البلد يعيش حالة اقتصادية واجتماعية مأزومة ولا قدرة له على تحمّل مخاطر الانزلاق إلى صدامات ومواجهات لا أحد رابح فيها. وثمة حرص مشترك على إبقاء عملية التفاوض بعيدة عن لعبة تسجيل النقاط وتحسين شروط التفاوض.
رابعاً: وصول المفاوضات التي عُقدت حتى الآن إلى تحديد المواصفات والإطار السياسي العام للتسوية الرئاسية التوافقية والمبادئ التي تحكمها، والبحث السياسي تناول العناوين الأساسية للمرحلة المقبلة التي ستلي انتخاب الرئيس لئلا تكون هذه المحطة في ظل عدم حسم الخلاف على القضايا الكبرى عودة إلى الوراء بدل أن تفتح انتخابات الرئاسة الآفاق باتجاه حل الأزمة. وفي المعلومات أن المفاوضات دخلت فعلياً في أسماء المرشحين وعرض خلفياتهم السياسية تمهيداً لبدء التصفيات بحيث ترسو الرئاسة على شخصية قادرة بموقعها وتاريخها ونهجها السياسي على إدارة التوازنات وتبنّي الخيارات التوافقية في التعامل مع كل القضايا المختلف عليها بين القوى السياسية المتنازعة.
خامساً: اتفاق بري ـــــ الحريري على الدفع باتجاه إبقاء الموضوع الرئاسي في إطاره اللبناني، وأن يكون الرئيس المقبل صناعة لبنانية مثل المبادرة التي أطلقها ويراها الرئيس بري لبنانية مئة في المئة، والطرفان مرتاحان حتى الآن إلى الدعم العربي والدولي والاهتمام بالوضع اللبناني، وبقاء هذا الدعم والاهتمام بحدود حثّ اللبنانيين وتشجيعهم على معاودة الحوار وصوغ تفاهمات في ما بينهم لإمرار الانتخابات الرئاسية في موعدها بهدوء وبشكل وطبيعي، علماً بأن الرئيس بري ما زال عند رهانه بإمكان اقتناص الفرصة وخطف الرئاسة وإنقاذ البلاد من خلال التوافق الذي سيرغم الخارج بمحاوره ومصالحه على الاستجابة لرغبة اللبنانيين بدل الاستسلام لضغوط هذا الخارج وحساباته.
سادساً وأخيراً: اقتناع بري والحريري بأن التوافق بين اللبنانيين ليس مجرد خيار، بل هو قدَر لأنه يستحيل بقاء لبنان وحفظه خارج المعادلة التي قام عليها، حيث لم يحصل في تاريخ لبنان أن اختلّ التوازن في تكوين السلطة وغُيّبت الشراكة وتعطّل الوفاق إلاّ دفعت البلاد أثماناً باهظة وغرقت في أزمات عرّضت السلم الأهلي والوحدة الوطنية للمخاطر.