strong> مهى زراقط
تروي الجدّة:
في سالف العصر والزمان، كان الناس يعيشون طويلاً. وفي عهد بني إسرائيل، عاش أحدهم أكثر من ألف عام قضاها متعبداً... صام الدهر، صام ألف شهر. وعندما نزلت الرسالة على النبي محمد، راح يتساءل: «هل سيكون في أمّتي أنا عابد مماثل لعابد بني إسرائيل؟». عندها، زاره الملاك جبرائيل وقال له: «إن الله يقرئك السلام، ويقول لك إنه خصّ ليلة بفضله تساوي العبادة فيها عبادة ألف شهر»... هذه الليلة هي ليلة القدر التي وصفها القرآن الكريم بأنها «خير من ألف شهر».
ما روته الجدّة أعلاه، واحدة من قصص يتداولها العامّة عن ليلة القدر التي خصّها الله بسورة من كتابه:
«إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر». كما ورد ذكرها في سورة الدخان «إنا أنزلناه في ليلة مباركة، فيها يفرَق كلّ أمر حكيم».
تحلّ هذه الليلة على المسلمين مرة كلّ عام. قد تكون حلّت قبل ثلاثة أيام، أو ستحلّ في ما بقي من ليالي شهر رمضان. فالثابت عند جميع المسلمين أنها واحدة من الليالي العشر الأخيرة من شهر الصوم. يحييها متّبعو المذهب الشيعي في 19 و21 و23 منه، ومتّبعو المذهب السني في الـ27 منه.
وهي تشبه في مفهومها الشعبي ليلة الغطاس عند المسيحيين حيث يزور المسيح الأرض وتسجد له كلّ الأشجار (باستثناء شجرة التين الملعونة). في تلك الليلة، يصنع الناس عجينة، يكبّسون عليها مسجلين أمنياتهم، وينتظرون أن يمرّ المسيح لكي يحقق لهم أمنياتهم تلك.
لكن إلى أي حد لا تزال هذه النظرة الشعبية ـــــ الخرافية موجودة عند اللبنانيين؟

«شبّيك لبّيك»

يختلف تعريف هذه الليلة عند المسلمين، بين ملتزم منهم وغير ملتزم. الأخيرون يركنون إلى المزاح والضحك متذكرين ما سمعوه أطفالاً من خرافات عن معجزات تحدث في هذه الليلة. المتدينون بدورهم ينقسمون إلى قسمين: منهم المتزمت الذي يرفض مجرد فكرة المناقشة في فضائل هذه الليلة ومعجزاتها، ومنهم المثقف الذي يعطي للشعائر والعبادات التي يقيمها الأهمية الأكبر.
تتداول الروايات الشعبية عن ليلة القدر بأنها ليلة الحظ وفرصة العمر: «في لحظة معينة من هذه الليلة، يمحى الكون ويعاد تشكيله». فيها أيضاً «تسجد كلّ الأشجار، و«تظهر» الليلة على شخص يختاره الله فيحقق له ما يتمناه»... وفي باب الأمنيات حدّث ولا حرج: «تظهر امرأه اسمها «الصالحة» وتطلب من الشخص الذي اختارته أن يطلب 3 أمنيات لتحقيقها». وتختلف «الصالحة» بين رواية وأخرى، فقد تكون ملاكاً أو طفلاً... أو طاقة في السماء يخرج منها نور قوي مع صوت يقول كما فانوس علاء الدين السحري: «شبيك لبيك...». لذلك، ذهبت مثلاً يردّد في حالات اليسر والرضى. فيقول المثل الشعبي، في وصف من تحوّلت أحواله إلى الأفضل، إن «طاقة القدر فتحت له». ويردّد آخرون أمام ما يرونه نعمة لدى أحدهم: «روح، أمك داعيتلك بليلة القدرترفض الحاجة السبعينية أم عماد القول إن هذه الروايات خرافات وأساطير... تقدّم لضيوفها «الرطب»، الفاكهة المباركة في هذا الشهر الفضيل، وتجلس لتروي كيف «ظهرت» عليها الليلة قبل ثلاثين عاماً: «أتذكر جيداً ما حصل. قبل أن أنام كان الساهرون عندنا في البيت يتحاجّون في موعد ليلة القدر الحقيقي، وفي قيمة هذه الليلة وفضلها عند الله. كان ذلك ليلة التاسع عشر من رمضان، صلّيت وتلوت الأدعية ونمت... بعد ساعات رأيت عموداً كبيراً، لونه بين الأزرق والأصفر يصل من الأرض إلى السماء. استيقظت ورحت أصرخ: «الله أكبر، الله أكبر، يا ربّ أعطني
الجنة...».
كبرت أم عماد على حكايات والدها المؤمن عن فضل هذه الليلة التي تظهر على العباد الطيبين: «جارنا في القرية، لم يكن يحسن الصلاة ويردد الآيات القرآنية بشكل خاطئ كما حفظها، لكنه كان مؤمناً... ذات ليلة خرج إلى حقله ليعمل فيه باكراً وعاد صارخاً إلى بيت أبي: «شجر الزيتون كلّه في الأرض...» فأخبره أبي أن ما حصل معه بركة من الله وأنه شهد ليلة القدر».
ويروي زوجها، بعد أن يقول «حدّثنا الكبار»، أن أحد أبناء القرية «كان موجوداً في كرم للزيتون، شاهد الأشجار تسجد وسمع من يطلب منه أن يتمنى فتمنى قطيعاً من الغنم يرعى في الأرض وكان له ما أراد».

مستقبل العام

تعود هذه الروايات إلى الجيل القديم، وقلّما تسمع شباب هذا الجيل يذكرونها في أحاديثهم عما تعنيه لهم ليلة القدر. لكن تبقى هناك بعض الأمور ذات القدسية، غير المرتبطة بالعبادات فحسب. تقول دنيا: «يقال إنه في هذه الليلة، يحدد الله مصيرنا ومستقبلنا للعام المقبل». لذلك هي تحرص على إحيائها منذ وعيها، رغم عدم التزامها الكامل بالدين، لأنها خبرت «كرامتها»، تقول: «قبل سبع سنوات كان جدي يحتضر... قضينا الليلة كلّها نصلي وندعو له... تحسنت صحته وبقي حياً ولا يزال إلى اليوم...».
لكنّ دنيا لا تحيي الليلة في المساجد بل في البيت، متابعةً النقل المباشر عبر التلفزيون. بخلاف زينب التي لم تتخلّف عن إحياء ليلة القدر منذ 15 عاماً في المسجد «ذات عام انقسم متّبعو المذهب الشيعي في تحديد بداية شهر رمضان فأحييت ست ليال لا ثلاثاً».
تعي زينب أن «كلّ ليلة من العام يمكنها أن تكون مخصصة للعبادة والدعاء، لكنها عندما تحدّد بليلة فهي تصبح أيضاً طقساً اجتماعياً... يمكنك تشبيهها بعيد الأم أو عيد الحب... لي أصدقاء لا ألتقيهم إلا في المسجد من عام إلى عام». هي أيضاً فرصة «تبتعدين فيها عن الأمور المادية وتسلّمين نفسك لله... بإحياء هذه الليلة أحيي جانباً روحياً فيّ، أشعر بهذا فعلاً والدليل، تتابع ضاحكة، أني أكافأ نفسي بمنقوشة أتسحّر عليها بعد عودتي إلى البيت».
ولا تخلو هذه الليلة من طرائف مثل العجوز التي لا تفارق الجامع كل ليلة: «لا تفعل شيئاً، تدخل إلى الجامع وتنام لا تستيقظ إلا عندما يوزعون شيئاً للطعام، قطعة حلوى مع عصير، وتروح تسأل «وين صار الشيخ؟».

كرامات

تبدو هذه الآراء لافتة هذا الشهر، الذي تلاحظ فيه مريم أن الناس ابتعدوا عن كلّ الروحانيات وتحوّل رمضان إلى شهر للطعام والتلفزيون... وحتى ارتفع فيه عدد غير الصائمين الذين يشهرون ذلك حتى في المناطق المشهورة بطابعها الديني. لكن خليل، الذي يتساءل مثلاً عن «كرم» هذا الشهر وهو الذي لم يبع في دكانه ما يكفي كلفة إيجاره، يعود فيستدرك «ربما كان كريماً في مكان آخر... مثل دعائنا في ليلة القدر».
بالنسبة إلى خليل، وكثيرين من جيله، هذه الليلة يجب أن تخصص للعبادة والدعاء. محمد يفرّق بين نظرتين شكّلتا وعيه إلى ليلة القدر، الأولى عندما كان طفلاً «وكان خيالي ينسج أمنيات وأحلام لما سأطلبه عندما تظهر عليّ الليلة». أما الثانية فهي قرآنية واعية: «هذه فرصة من الله لعباده لكي يتقرّبوا منه، يتيح لهم فيها استغفار ذنوبهم والتكفير عنها وطلب حاجاتهم». بعبارة أخرى «شهر رمضان هو واحة في صحراء العام وليلة القدر مياههاهذا الوعي الديني لأهمية هذه الليلة، والبحث عن كراماتها داخل الذات وليس خارجها، لا يمنع المؤمنين من السعي خلف بركاتها في أمورهم الحياتية.
فادي مثلاً اختار أن يعرّف صديقه، الباحث عن زوجة، إلى عروس في ليلة القدر: «دعوته إلى السحور في بيت أهلها، أحيينا الليلة في الجامع وذهبنا لزيارتهم». لم يتفق الشاب والفتاة ولم يرتبطا «لكن هذا لا يعني شيئاً، يقول فادي ضاحكاً، كان قصدي بركة هذه الليلة، لكن إنجاح علاقة يقع عليهما لا على
القدر».
البركة لا تقتصر فقط على إحياء الليلة، وإنما على المكان الذي تقام فيه شعائرها. منذ غادر حسن بلدته لم يعد يشعر بالخشوع «وصار ترداد العبارات نفسها عشرات المرات مثيراً لأعصابي أكثر من كونه باعثاً على الطمأنينة كما كانت الحال عليه عندما كنت في مسجد القرية». الأمر مختلف بالنسبة إلى مريم التي تصلي كل ليلة «مئتي ركعة، كما أقرأ دعاء الجوشن الكبير أو أحاول أن أختم القرآن». كلّ هذا بهدف واحد هو «التقرّب من الله طبعاً... فأنا لم أصدّق قصة بابا نويل طفلة لأنهك نفسي بالعبادات من أجل أمنية».
يبقى السؤال عن سبب عدم تحديد تاريخ معيّن لهذ الليلة، فيرجّح أكثر من مرجع ديني أن يكون السبب رغبة من الله في أن يتعبد المؤمنون في أكثر من ليلة، لاحتمال أنها ليلة القدر، حتى يعتادوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر في العبادة والخضوع والقرب من الله.
أما بالنسبة إلى تسميتها، فيرجّح أن تكون مستوحاة من القدر بمعنى الشرف والرفعة، وما لها من المنزلة الرفيعة عند الله. وقد تكون بمعنى التقدير، أي أن الله يقدّر فيها أحداث السنة من حياة وموت استناداً إلى قوله تعالى في سورة الدخان: «فيها يُفرَق كلّ أمر حكيم».



اللهمّ... هذا ما نريده

هذه المرة طالت جلسة الطفلة ياسمين (4 سنوات) في انتظار انتهاء والديها من تلاوة الدعاء. بخلاف غيرها من ليالي شهر رمضان، لم يقتصر الأمر على «دعاء الافتتاح» اليومي، أي على كتاب واحد يحمله والداها. الكتب كثيرة، وهذا ما أوحى لها بأنهما لن ينتهيا قريباً ليلعبا معها أو يرويا لها قصة.
تتذكر أن والدها كان قد أخبرها أن جلسته ووالدتها للدعاء هي ليطلبا من الله مساعدتهما، وهي حفظتهما يرددان «اللهم إنّا نشكو إليك ضعف عددنا... «... فما كان منها إلا أن اقتربت من والدها ناصحة إياه «بابا... ليه ما بتقول مثلي: اللهم إنو ما عنّا شي... اللهم بدنا كلّ شي».
يكتم الوالد ضحكته، وتصبح العبارة التي رددتها طفلته على لسان كلّ من يعرفهم في اليوم التالي: «اللهم بدنا كلّ شي»... لكن ليس الجميع كياسمين الطفلة، بل هم أكثر وعياً منها لما يريدون طلبه.
مريم مثلاً تريد أن تصبح «أضعف وأجمل وأن تتزوج رجلاً غنياً» كما حصل مع ابنة أحد النواب السابقين التي حلّت عليها ليلة القدر.
هذه الأمنية تثير استغراب وفاء، التي لم تحلم يوماً بشء شخصي لها بقضايا عامة. وما يمكن أن تطلبه في ليلة مماثلة تتحقق فيها الامنيات يختصر بجملة واحدة: «زوال دولة اسرائيل وعودة الفلسطينيين إلى أرضهم»... خاتمة بالقول: «علماً أني لا أصوم، ولاأحيي ليلة القدر».
سناء وضعت سلة أولويات للدعاء: حماية المقاومة أولاً، أن تستمر في إحياء هذه الليلة كل عام ثانياً، والتوفيق في حياتها ثالثاً من دون تحديد شروط هذا التوفيق. محمد يريد «تحرير فلسطين، السعة في الرزق وزيادة الإيمان». وحبيب الذي يحرص على صيام شهر رمضان في لبنان يريد «عملاً دائماً في بلدي وأن لا أعيش في الغربة مجدداً».