جان عزيز
دقيق جداً كلام الإعلام على الآثار السياسية للاغتيالات والتصفيات. والدقة هذه تبلغ حدّ الألم، حين يكون الحديث عن نتائج جرائم غادرة، مثل التي أدت الى استشهاد بيار الجميل في 21 تشرين الثاني 2006، وأنطوان غانم في 19 أيلول 2007. ومع مرارة السياق وحسرته، يظل السؤال ممكن الطرح: هل يُصلح استشهاد غانم ما خلّفه استشهاد الجميل من تراكم وانفجار، بين حزب الكتائب اللبنانية والتيار الوطني الحر؟
سياق السؤال طبعاً، الزيارة الحاصلة أمس من وفد مشترك من عائلة النائب الراحل وحزب الكتائب، الى العماد ميشال عون في الرابية، لشكره على تعزيته.
غير أن المعلومات المتوافرة تؤكد أن الحدث المذكور تخطّى الاطار الاجتماعي وطابع الواجب الإنساني ليدخل مباشرة في السياسة. ذلك أن الزيارة التي فرضتها مبادرة عون اللافتة الى تعزية عائلة الشهيد فرداً فرداً عبر الهاتف، وكذلك الى تكليف وفد حزبي كبير تقديمها باسم التيار، كان من الممكن ان يكون ردُّها مقتصراً على الاطار العائلي نفسه. لكن اجتماعاً عقد قبل أيام في دارة الرئيس أمين الجميل في بكفيا، حضره الى الرئيس الأعلى لحزب الكتائب، عدد من مسؤولي الحزب الأساسيين، لبحث المسألة مباشرة. وانتهى الرأي الى ضرورة ان يقوم نائب رئيس الحزب جوزف أبو خليل بمرافقة عائلة غانم في زيارة عون. كذلك انتهى الرأي إلى تكليف حزبي رسمي لأبو خليل بالتطرق في الحديث مع عون إلى مسألة العلاقة الثنائية بين الكتائب والتيار، وبين زعيميهما على المستوى الشخصي، وتكليف أبو خليل مفتوح على التباحث في ما يمكن عمله لمعالجة الأزمة القائمة على هذا الصعيد، منذ سنة ونيف، ولجس نبض عون بشأن فكرة التطبيع التدريجي للعلاقة وضروراتها ومقتضياتها. وتفيد المعلومات نفسها أن الجميل شخصياً كان مهتماً بالموضوع، وهو ما جعله يكرر جلسات «البريفينغ» حوله مع أبو خليل، أكثر من مرة في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، حرصاً على اعطائها أكبر قدر من ظروف إنجاحه وحظوظها.
وفي المقابل، كان الانفتاح في الرابية طبيعياً، كاملا،ً وبدا استمراراً لسلوك لم ينقطع طيلة شدة القطيعة ومساوئها. كذلك ان الاستعادة السريعة لتاريخية العلاقة بين الطرفين، تظهر التجاوب الدائم لعون، حتى في أحلك أوقات الأزمة.
فرغم تناقض الخيارات النيابية سنة 2005، ترك عون مقعده المتني الثامن لبيار الجميل. بعدها، ورغم تباين الخيارات الحكومية والسياسية، ورغم الحملة الشرسة التي شنّها فريق الموالاة على وثيقة التفاهم بين التيار وحزب الله المعلنة في 6 شباط 2006، لم يتردد عون في تأليف لجنة حوار مشتركة بين التيار والكتائب في 21 شباط نفسه. ورغم اتضاح التباين الحاصل مذّاك في مسألة الاستحقاق الرئاسي، ثابرت هذه اللجنة على العمل الحواري دورياً، فالتقت عون والجميل الأب والابن، ووضعت جدولاً حافلاً لمناقشاتها، تناول قانون الانتخاب واللامركزية الإدارية والتفاهم مع حزب الله ومضمونه وخلفياته وصولاً الى مسألة الرئاسة المقبلة.
ورغم العقدة التي مثّلتها النقطة الاخيرة، تمكنت تلك اللجنة من اجتياز مطبات السياسة، حتى شهر أيار 2006، يوم شارك التيار في تظاهرة المطالب المعيشية في وجه الأداء الحكومي، فانبرى الوزير الجميل منتقداً بعنف تلك الخطوة في ما مثّل بداية الافتراق. بعدها جاء استشهاد الجميل وما رافقه من ردود فعل عفوية أو مفتعلة تحت وطء التحريض والتدخل والدس، فوقع الطلاق واستمر حتى ما بعد نيابية المتن الفرعية في 5 آب الماضي.
عشية الاستحقاق المذكور، قال أحد العارفين المخضرمين بالقوى السياسية المسيحية، إن جريمة الاغتيال، وكذلك أداء الموالاة وخطواتها الانتخابية في هذا التوقيت، وضعا أمين الجميل في حالة مفارقة منطقية وسياسية، على طريقة الميثولوجيا الاغريقية. اذ فرضا عليه ان يخوض معركة قاسية ضد حليف محتمل، والى جانبه من موقع الحلفاء المفترضين، أخصام مرجّحون.
ورغم كل المحاولات، وبعد فشل المسعى البطريركي مرتين، بعد اغتيال الجميل وعشية الانتخاب، ومع تخطّي حقائق ذلك كله، وقعت المواجهة وانتهت الى ما انتهت اليه.
بعد 5 آب، قيل إن كلاًّ من طرفي المعركة الأقسى في تاريخ الانتخابات المسيحية، أعادا قراءة الصورة. وقيل إن البحث بدأ في اعادة ربط الجسور المقطوعة. اخترع الرئيس الجميل زيارته الى الرابطة المارونية في 4 أيلول الماضي. قيل إن ثمة من همس في أذني ممثلي عون والوزير السابق سليمان فرنجية، في اللجنة السياسية للرابطة، أن الجميل حريص على لقائهما. حصل اللقاء، كسر الجليد، تزايدت مبادرات الوصل. بعضها جدي والآخر هامشي، لكن النتيجة كانت عودة الحكي.
بعد 15 يوماً اغتيل أنطوان غانم. كان الكل في لحظة رعب، ماذا لو عادت أجواء اغتيال بيار؟ ماذا لو استغل الاطراف انفسهم الجريمة وكرروا لعبة الدس؟ سرعان ما تبين أن دم بيار لم يذهب هدراً، لهذه الناحية على الأقل. استخلص الجميع الدرس والعبرة، فكانت دماء انطوان غانم جامعة أكثر، خصوصاً أن الظرف الوطني العام أشد وطأة وثقلاً، مع إرهاصات الفراغ الدستوري والانفجار الوطني والتصدع المسيحي.
بعد لقاء أمس، قد يعود البحث الى جدول اعمال لجنة الحوار الكتائبي ــــ التياري المتوقفة قبل عام ونيف، وقد تظل ثمة عقدة أكثر استعصاء على الحل. لكن الظاهر أن ثمة من تعلّم من التجارب والمواجهات والدماء، وتأكد ان الحوار حتمية للإنقاذ، إلاّ في حال القرار النهائي بالانتحار.