strong>بيسان طي
  • صورة المدينة الحزينة يكسرها أبناؤها الباحثون عن الترفيه رغم كلّ شيء

  • للعام الثاني على التوالي تفتقد سهرات بيروت الرمضانية فعالياتها الثقافية والفنية التي اعتادتها. محاولات فردية تكسر الجمود، فيفتتح مسرح في مكان، ويطلّ «الدراويش» من مكان آخر، ويبقى «الكورنيش» أباً للفقراء... والمسلسلات رفيقاً بين الجدران الأربعة

    لون رمادي كالحزن يلفّ بيروت مع ضربة المدفع وارتفاع صرخة «الله أكبر» من المآذن. تكاد الشوارع تخلو من كل ما يشير إلى الحياة. للوهلة الأولى يتخيّل المتجوّل فيها أن العاصمة استسلمت لخوفها، أي لحالة الرعب المتأتية من الانفلات الأمني والانفجارات المتنقلة.
    لكن المدينة لا تعلن سرّها بسهولة، يمرّ وقت قبل أن ينسحب عشاق السهر من بيوتهم. الجولة في الحواري والشوارع، داخل المحالّ والمطاعم، تكشف وجهاً آخر. بيروت تعيش الخوف، لكنها مدينة عصيّة على الحزن. ثمّة حياة وفرح يتجاوران مع الإحساس بالـ«لا استقرار» وبأن الموت قد يتربّص بأي كان عند أية زاوية.
    السهر في المنزل هو خيار معظم الصائمين «فالحالة الاقتصادية سيئة، والحالة الأمنية تعبانة، إذا قررنا أن نخرج من المنزل فقد نفاجأ بدويّ انفجار، وإذا تخطينا خوفنا فلا نملك المال الكافي للنزهات» تقول غنوة السيد وهي أم لثلاثة أطفال. تنفجر المرأة باكية، فزوجها لم يقبض راتبه كاملاً هذا الشهر، «وأقساط المدارس دابحتنا». ما تقوله غنوة قد نسمعه يتردد على ألسنة الآلاف في العاصمة وجوارها، هؤلاء اختاروا الانزواء في منازلهم أو تبادل الزيارات مع الأهل والجيران «هيك أستر وأوفر».
    رئيس نقابة الفنادق بيار أشقر علّق بأن الموسم الرمضاني في بيروت «عاطل جداً» مقارنة بما كان عليه قبل سنوات، السياح العرب أو الخليجيون تحديداً يمضون هذا الشهر عادة في بلدانهم، ولبنان لم يعد وجهة سياحية بالنسبة إلى الأوروبيين، وأضاف: «اللبنانيون يعانون منذ عامين الأزمة التي تعصف بالبلاد، ثمة عدد كبير من المطاعم والفنادق والشركات والمؤسسات التي كانت مزدهرة أصبح أصحابها يعانون ضيقاً مادياً، الأزمة السياسية تنعكس على الوضع الاقتصادي، ومن خلال مقارنة سريعة نلحظ أن نسبة تشغيل المطاعم والفنادق في رمضان كانت تبلغ 45 إلى 55 في المئة خلال السنوات الماضية (أو تحديداً قبل عام 2005) وتدنت إلى 20 في المئة هذا العام، وهناك الكثير من المطاعم التي أقفلت أبوابها».
    سكان بيروت ليسوا مجتمعين على رأي واحد، كثيرون انزووا في منازلهم في سهرات رمضان، لكن ثمة من قرّر أن يكسر «الصورة الحزينة للمدينة» بحثاً عن الترفيه «رغم كل شيء».
    الخيارات تكاد تنحصر بأحياء محددة. مسرح «بابل» فتح أبوابه في الحمراء، رغم تأخير في الموعد الأصلي لافتتاحه بسبب الانفجار الذي أودى بحياة النائب أنطوان غانم ومرافقيه وعدد من المدنيين في سن الفيل. لكن رغم الأوضاع الأمنية المتوترة فإن هذا المسرح استعاد «طقساً» حرص عليه مسرح المدينة وخشبات أخرى في سنوات سابقة في رمضان، حيث تُفرد خشبات المسارح لفنانين من خارج التيار التجاري المسيطر على الشاشات والإذاعات، يقدمون عروضاً من الفن الراقي والأصيل و«بعض التراث» وتُترك الخيم لنجوم الموجة الجديدة ومغنّي الصف الثاني والثالث من هذه الموجةولأن رمضان حلّ هذا العام في شهر أيلول، أو بالأحرى بدأ خلال هذا الشهر، ولأن أيلول هو شهر مهرجان عروض الشارع، كان لا بد من «إطلالة» رمضانية حرص عليها المنظمون. فأطلّ «الدراويش» في قلب بيروت، مساء 27 الشهر الماضي وملأوا فجأة شارع مار الياس رقصاً، ثم انتقلوا في اليوم التالي إلى محلة فردان.
    في مار الياس كان التفاعل كبيراً مع هؤلاء الدراويش الآتين من مدينة طرابلس، أما أهالي فردان فلم يبدوا حماسة في استقبالهم ومتابعتهم. أداؤهم كان رائعاً بشهادة متابعيهم ومقالات المدح الكثيرة التي كُتبت عنهم، وهذه المرة الأولى منذ عقود طويلة التي يطلّ فيها دراويش بـ«شحمهم ولحمهم» أمام سكان العاصمة. خرجوا من الكتب المصوّرة وشاشات التلفزة إلى الشارع، وأتوا من طرابلس لا من الخارج، وفق ما أكد مصطفى يموت أحد المشاركين في تنظيم مهرجان الشارع.
    «الوجه الآخر للترفيه» في المدينة نوعان، يتمثل الأول بالإفطار أو تناول السحور والسهر في المقاهي والمطاعم والخيم الرمضانية، والأخيرة مقصد الميسورين في لبنان (فيما هي في مصر مثلاً لذوي الدخل المحدود). والشكل الثاني لهذا الترفيه يتمثل بالنزهات في الوسط التجاري ( قبل الاعتصام) أو عند كورنيش البحر، وشراء مأكولات أو مرطبات وفناجين من القهوة وأخواتها من بائعين متجولين. على أي حال كان هذا «الوجه الآخر للترفيه» هو الأكثر انتشاراً في لبنان منذ سنوات طويلة.
    ثمة إقبال لا بأس به على مطاعم ومقاهٍ وأمكنة الترفيه والكورنيش في منطقة الروشة وجوارها رغم أشغال تأهيل الطريق الرئيسية في الروشة والرملة البيضاء (وهي أشغال نعرف في لبنان متى تبدأ، لكن الانتهاء منها يتأخر دائماً)، هكذا تقع العين على إعلانات ضخمة لمغنين ـــــ من غير النجوم ـــــ يحيون سهرات وحفلات، وتزدحم سيارات الساهرين على امتداد الرصيف الملاصق للمقاهي.
    تقول يسر تيا من مكتب العلاقات العامة في فندق «كورال بيتش» إن المسؤولين في الفندق قرّروا نصب الخيمة هذا العام، لكن لثلاثة أيام في الأسبوع، «فاللبنانيون لا يسهرون كل الأسبوع، بل في أيام العطلة فقط»، ولفتت يُسر إلى أن نسبة إقبال الزبائن إلى هذه الخيم تراجعت نحو 30 إلى 40 في المئة عما كانت عليه، وأضافت: «في غياب الوسط التجاري يختار عشاق السهر الروشة والرملة البيضاء».
    أما الكورنيش الممتد من عين المريسة إلى المنارة فإنه يزدحم بساهرين آخرين، هؤلاء الذين لا يملكون مالاً كافياً لقضاء سهرة في المقهى. الكورنيش «أبو الفقراء» يستقبل بعد الإفطار مباشرة الباعة المتجولين، يتمركز نحو 12 بائعاً تقريباً على الرصيف، تبعد بينهم أمتار قليلة، يجلس كلّ بائع خلف عربته التي يعرض عليها «العرانيس» والفول والترمس، بعضهم يرفع العلم اللبناني تأكيداً لانتمائه السياسي و«الوطني»، ويردد هؤلاء: «نحن لسنا أغراباً هنا» تمايزاً ربما عن بائعين آخرين قادهم الفقر من سوريا والعراق أو ضواحي بيروت إلى عين المريسة والمنارة. عند الثامنة تقريباً يبدأ توافد «الساهرين». البحر وحده «ببلاش في هذا البلد» تقول رانية الزين وهي تجرّ ابنها الصغير وتتأبط ذراع زوجها. هي معلمة مدرسة وهو موظف مبيعات و«السهرة في مطعم بتخرب البيت». أما عند الكورنيش فكل شيء «يباع بسعر معقول والكزدورة قد لا تكلّف أكثر من 5000 ليرة، شوية ترمس وعرانيس والصغير يستفيد من الفسحة الكبيرة ليركض ويلعب»، الفسحة الكبيرة هذه تتسع أيضاً لطاولات صغيرة وكراسيّ «لزوم جلسة شبابية» وورق أو طاولة للعب... ونارجيلة. هذه الأخيرة يأتي بها الشبان من منازلهم أو من «محل للدليفري» يقول غالب المنهمك «بدق أربعمية»، وبعدما تُعلن خسارته ينتقل إلى الحديث عن المكان، فيقول: «الكورنيش هو هو، في رمضان وبعده، هنا النسيم والفسحة الكبيرة المفتوحة التي لا تشبه أزقتنا، وهنا التسلية مجانية، والبحر لنا، في الليل لا نرى ما فيه من تلوث»صغار وكبار، شبان وفتيات، عشاق وأصدقاء، مسنون ومسنات، يعج الكورنيش بالمئات أو الآلاف، تعلو من رصيفه ضحكات، أصوات أحاديث البعض، وأغنيات تنبعث من مسجل السيارة أو مذياع صغير. المتابع لحركة الناس عليه يشعر كأن المشاهد التي تتوالى عنده خارجة عن سياق الحياة الحالية في لبنان.
    من ناحية أخرى، يلحظ المتجوّل في شوارع بيروت مساء إقبالاً كبيراً على الجوامع، يذهب إليها المسلمون بالمئات، ومن السهولة بمكان في رمضان هذا العام أن يرى المتجول المصلين الذين يؤدون صلاة التراويح بعد العشاء، وقد اكتظت بهم صالات الجوامع، فاضطر بعضهم إلى أن يفترشوا الأرصفة المحاذية لبعض الجوامع، وفي هذا الإطار يقول الشيخ صلاح فخري (مدير الأزهر في لبنان) إن إقبال المؤمنين على الجوامع يزداد من سنة لأخرى، وقد وافق على أن هذا الإقبال سجل رقماً قياسياً هذا العام، لكنه يضيف: «الإحصاء عند الله، لا نملك أرقاماً محددة».



    عاشت المسلسلات الرمضانية

    «لولا المسلسلات المضانية لطقّ قلبي» هذا ما تقوله أم عصام، المرأة المسنّة التي تعيش قرب الكولا. أم لأربع فتيات «يعشقن السهر والخروج»، لكن «خبريات أم عصام بطلة باب الحارة» شغلت الصبايا ووالدتهن وجاراتها.
    تقسم النسوة أوقاتهن كالآتي: اللقاء الصباحي لمناقشة أحداث الحلقات الأخيرة من المسلسلات التلفزيونية، يتم التركيز على المسلسل السوري «باب الحارة» الذي «سحر القلوب والعقول» وتختلف الجارات في تقويم الأحداث، لكنهن يجمعن على أن «الرجل ما إلو أمان والمرأة مظلومة من يوم يومها»، ثم ينتقلن للحديث عن مسلسل «يسرا» وعن «الملك فاروق» وعن «حمادة أو يحيى الفخراني».
    بعد نحو ساعتين تتفرغ كل امرأة «للمشتريات وتحضير المأكولات للإفطار»، وبعد الانتهاء من إعداد الطعام يتسمرن أمام شاشات التلفزة لمتابعة المسلسلات من جديد.
    تقول أم عصام إن المسلسلات أنقذت الناس «من الزهق» هذه السنة. وهي رغم أنها كانت تمضي أوقاتها في سنوات سابقة مع صديقاتها والأقارب وتخرج من المنزل، إلاّ أنها هذا العام استسلمت نهائياً لسحر التلفزيون.
    في هذه الشاشة ترى حياتها كما تتصورّها، وتحتمي داخل المنزل من أي مكروه قد يقع «في بلد ما عاد فيه أمان». وبعدما تلح ابنتها فاتن عليها بتلميحاتها، تعترف أم عصام بأنها لم تعد تريد أن ترى صديقاتها القديمات «فرّقتنا السياسة والطائفية»... وصار الحديث عن المسلسلات وحدها يمنع الحرج ويمنع «كل المتخاصمين من الخوض في أسباب
    خصوماتهم».