جان عزيز
هل حسم سعد الدين الحريري خياره وحزم أمره بزيارته إلى واشنطن، بالانتقال من المنطقة الرمادية الوسطية في فريقه، إلى المنطقة ما دون الحمراء تشدداً وتصلّباً، وبالتالي الانتقال من طرف المراهنين على التسوية، إلى معسكر المراهنين على الحرب؟
أكثر من إشارة باتت تدلّ على هذا الاتجاه. وأبرزها تأكيد سيد قريطم من العاصمة الأميركية أنه يتطلع إلى إيصال رئيس للجمهورية من داخل فريق 14 آذار، علماً بأن هذه المقولة ستخلّف أكثر من ارتداد وصدى، ضمن حلقة فريق الموالاة أولاً، وضمن حلقة الشأن اللبناني ثانياً، وأخيراً في إطار الحركة السياسية الإقليمية التي ينتمي إليها الحريري. ويلاحظ أن البوادر الأولى لهذه الارتدادات بدأت فعلاً، لا بل إن بعضها كان على طريقة الإشارات السبّاقة، فسجل حصوله قبل زيارة واشنطن حتى.
وباستعراض أصداء الانتقال الحريري المذكور، تسجّل داخل فريق الموالاة سلسلة تحركات ميدانية، على طريقة إعادة التموضع، نتيجة موقف زعيم المستقبل. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن حركة الرئيس أمين الجميل المتمايزة، إن في فعلها، أو في ردود فعل حلفائه عليها. ففي الفعل بات معلوماً ومعترفاً به من المعنيين أن الجميل بادر إلى زيارة نبيه بري في 21 أيلول الماضي، عقب اغتيال النائب أنطوان غانم، وعشية موعد 25 أيلول لجلسة الاستحقاق، من دون حيازته موافقة حلفائه كافة على القيام بهذه الزيارة. وإذا كانت هذه الخطوة قد ظهّرت إلى العلن تمايز الرئيس الأعلى لحزب الكتائب، فإن ما سبقها من إشكال بروتوكولي مزعوم مع سمير جعجع أثناء جنازة غانم، وإشكال نقاشي آخر مع الجميل نفسه أثناء لقاء معراب، وإشكال تنسيقي ثالث مع اجتماع بكفيا الذي تلاه.
كما أن ردود الفعل على التمايز الكتائبي لم تتأخر، فصدر كلام قواتي المرة الأولى، يؤكد أن القوات معنية بمسألة مقعد بعبدا ـــــ عاليه الشاغر باغتيال غانم. في هذا الوقت كان وفد كتائبي قد أنجز زيارة إلى الرابية...
وتحركات إعادة التموضع نفسها سجلت على خط المرشح بطرس حرب، تصريحاً وتلميحاً. وفي هذه الحال أيضاً كان رد الفعل سريعاً أيضاً، عبر غمز من قناته عبر كلام حليف، يتّهمه بتدوير الزوايا مع عين التينة.
باختصار، سرعان ما بدا أن خطوة الحريري الأميركية، لجهة حسم موقعه بين صقور الموالاة، حرّكت نوعاً من الفرز الجديد داخل فريقه. فبات الحريري أقرب إلى جنبلاط وجعجع، فيما بدا الآخرون أقرب إلى بعضهم. وظل السؤال عن الموقع الحقيقي لفؤاد السنيورة. ففيما اعتقد البعض أن ذهاب الحريري نحو التشدّد، إنما فرضه الدافع إلى المزايدة على رئيس الحكومة أميركياً، ظهر السنيورة نفسه كأنه يتّجه نحو الوسط، وكأن ذلك بدافع نصيحة سعودية، وهو ما زاد مستوى الغموض في حقيقة علاقات الأطراف الداخليين والإقليميين والدوليين.
إلّا أن هذه الإشارة تفتح النقاش على الحلقتين الأخريين من سياق الارتدادات العكسية التي خلّفتها مواقف الحريري في واشنطن. فعلى الصعيد اللبناني العام، الأكبر من حلقة الموالاة، أشّر كلام زعيم المستقبل، إلى نعي شبه أكيد لمبادرة بري، وبالتالي للقاءين اللذين كانا قد جمعا الرجلين في عين التينة، قبل سفر الأول إلى واشنطن، ومع الوعد والأمل بمتابعتهما بعد عودته، ذلك أنه على عكس كل التسريبات والتسويفات، يؤكد العارفون أن لقاءي بري ـــــ الحريري كانا أصلاً للاتفاق على تسوية رئاسية على اسم ما. ورغم التسليم النظري بأن هذا الاسم قد يكون من الموالاة أو من المعارضة، لكن الجميع كان يدرك اتجاه الاثنين نحو صيغة وسطية، ليأتي كلام زعيم المستقبل «العظيم»، كما سمّاه جورج بوش، ليطيح هذا المسعى. والمعنى الفعلي لهذه الإطاحة يكمن في أمرين اثنين: الذهاب بالاستحقاق الرئاسي نحو الصدام المتفجّر، إن بصيغة الفراغ أو النصف زائداً واحداً أو «الدولتين»، من جهة، والذهاب أكثر بالحالة السنية ـــ الشيعية في لبنان، إلى المزيد من التوتر والاحتقان واحتمالات الانفجار.
وبالوصول إلى هذه النقطة من البحث، ينفتح النقاش على الأفق الإقليمي للمسألة: هل قررت الأنظمة القريبة من واشنطن في المنطقة، الذهاب في لعبة شدّ الحبال القائمة، إلى حدود الانفجار؟ أم أنها تلقت العلم والخبر الأكيدين بأن الضربة الأميركية لإيران باتت محتومة ووشيكة ومضمونة الاستثمار الإيجابي؟
كثيرة هي الأصداء المؤيدة لصحة هذا الاتجاه في الإعلام الأميركي اليوم، إن من جهة التوصيف الواقعي، كما بحث سيمور هيرش قبل يومين، أو من جهة التسويق والتشجيع، كما مقالات آخر ديناصورات المحافظين الجدد، أو أخيراً من جهة التحذير ومحاولات الثني، كما أقوال الديموقراطيين الأميركيين. لكن الشرائح الثلاث تشير في محصّلتها، إلى الاتجاه نفسه، وهو اتجاه الضربة العسكرية، مع ما يعني ذلك من وقوف سعد الدين الحريري على نقطة تقاطع هذا الاتجاه، لبنانياً وإقليمياً ودولياً.
لكن هل الأميركيون هم مَن قرّروا الحرب، واصطفّ حلفاؤهم الإقليميون؟ أم العكس هو الصحيح، ما يضيء أكثر على حركة الحريري المتسارعة والمتبدّلة؟ أحد العائدين من نيويورك، قبل أيام، ممّن التقوا مسؤولاً أميركياً رفيع المستوى، أكد أنه سمع منه حرفياً الآتي: لم تتخذ الإدارة في واشنطن قرار الحرب على إيران بعد. لكن المؤكد أنني سمعت من طوني بلير هنا، على هامش اجتماعه بالرباعية الدولية، أنه أبلغ زعماءها أن عدداً من مسؤولي دول المنطقة طلبوا منه أن ينقل إلى نيويورك طلباً من هؤلاء الزعماء، بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران.
هل بات الحريري في هذه الأجواء؟ وهل قرّر مع صقوره إدخال لبنان في نفقها؟ الجواب منتظر مع زيارة وليد جنبلاط إلى العاصمة الأميركية ومع ما قد يرافقها من سيناريوات ومخاطر، ليس أقلها اغتيال جديد، لإكمال الدائرة.