إبراهيم الأمين
في موقف لافت أعلن وزير العدل شارل رزق أنه سأل ذات يوم رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج براميرتس «هل يرفع التوصية التي أصدرها سلفه ديتليف ميليس بشأن توقيف الضباط الأربعة إذا لم يكن من أدلة على تورطهم بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري»، ونسب رزق الى براميرتس «رفضه رفع توصية ميليس».
ولم يكتف رزق بهذه الحكاية بل أضاف عليها أن القاضي براميرتس لن يترك مهمته قبل نهاية السنة الحالية «فإذا انتهى من التحقيق يقدم تقريره النهائي للمدعي العام الدولي الذي سيعيّنه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قريباً، ويقوم الأخير بإعداد قراره الاتهامي، وإذا لم ينته التحقيق يتابع المدعي العام هذه المهمة».
وبناءً عليه توقع وزير العدل «أن يستمر توقيف الضباط الأربعة على ما هو عليه إلى حين انتقال الملف إلى المدعي العام الدولي وإصدار القرار الاتهامي وعندها يقرر الأخير الإجراءات المناسبة في شأنهم».
ويبدو أن وزير العدل دخل عالم التوقعات، وهي مهمة ليست من اختصاصه، علماً بأن الرئيس أمين الجميّل عندما سأله وقاضي التحقيق في جريمة اغتيال النائب بيار الجميل عن توقعاتهما ازاء التحقيقات أجاب رزق: إن القضاء يدرس ويبحث ولا يتوقع. ثم إن وزير العدل أبدى وجهة نظر سياسية في ملف قضائي علماً بأنه كان قد أنهك اللبنانيين بحديثه عن استقلالية القضاء وعدم تدخله ورفضه حتى إنه تمنع لفترة طويلة عن مقابلة عائلات الموقوفين بحجة أن في ذلك تدخلاً في عمل القضاء. لكن رزق نسي أنه سبق أن صرح أمام مرجعيات سياسية بارزة سألته عن مصير الموقوفين بأن ما فهمه من المحققين أنه لا أدلة عليهم، لكنه ظل لأكثر من سنة يتحدث عن «مصلحة الموقوفين بالبقاء في السجن وذلك لأجل سلامتهم» وقال أكثر من ذلك «إن الجميع يعرف أن الأمر رهن حسابات مختلفة بينها السياسي والقضائي والأمني».
لكن ما فات رزق الآتي:
أولاً: لقد سبق أن تلقى براميرتس رسائل وجهها إليه المحامون أكرم عازوي وعصام كرم وناجي البستاني في شأن مصير توقيف الضباط الأربعة وأجاب ما نصه حرفياً «إن أمر التوقيف هو من الصلاحيات الحصرية للسلطات القضائية اللبنانية» وهو فعل الأمر نفسه أكثر من 8 مرات، بل زاد عليه في مناقشات شفهية مع وكلاء الدفاع عن المحامين بأنه «يعتبر أن توصية سلفه لم تكن قانونية، وأنه لا يمكنه القيام بخطوة من نوع إصدار توصية مضادة لأنه لا يريد إصلاح الخطأ بخطأ».
ثانياً: لقد صرّح مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال للصحافيين ولـ«الأخبار» أكثر من مرة، وتصريحه موجود بصوته وبالصورة أيضاً، بأن أمر التوقيف الخاص بالضباط الأربعة وبقية الموقوفين ليس من شأن الأمم المتحدة، بل هو من صلاحيات السلطات القضائية اللبنانية حصراً.
ثالثاً: لقد صرّح ميشال وبراميرتس في اجتماعات مغلقة ولكن مداولاتها صارت معروفة، مع أعضاء في مجلس الأمن الدولي، وفي لقاءات غير رسمية مع إعلاميين في الأمم المتحدة، بأنهم لا ينفون وجود اعتبارات سياسية وراء استمرار التوقيف، وأن الأمر من اختصاص قاضي التحقيق اللبناني.
رابعاً: لقد طلب المحقق العدلي المرفوعة يده عن الملف القاضي الياس عيد، بعلم وزير العدل نفسه وأمامه، من لجنة التحقيق تزويده بكل ما لديها من معلومات وتحقيقات تتصل بالضباط الأربعة والشهود الذين تمّ التوقيف على أساس إفاداتهم، وحصل أن أبلغ براميرتس القاضي عيد ومعه النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، أكثر من مرة، بأن كل ما لديه عن هؤلاء قد تم تسليمه، وبالتالي يمكن للقضاء اللبناني أن ينظر في الملف وأن يصدر قراره النهائي. وعندما راجع فريق الادعاء السياسي الجهة المسؤولة عن لجنة التحقيق في الخارج، جاءها الجواب بطريقة غير مباشرة ولكن عن لسان براميرتس، بأن نطاق صلاحيات عمله يقف عند حدود أمر التوقيف والإخلاء، وأنه حصل سابقاً أن أوصت لجنة التحقيق بتوقيف البعض أو إخلاء آخرين ولكن القضاء اللبناني لم يأخذ بها، وذلك نظراً لأن هذه المهمة ليست من اختصاص لجنة التحقيق الدولية، وهو أمر سبق للقاضي ميرزا أن أكده في معرض الحديث عن توصية دولية بتوقيف المدير العام في وزارة الاشغال فادي النمار والمدير العام في القصر الجمهوري العميد سالم أبو ضاهر.
خامساً: لقد وصل الأمر بالقاضي عيد الى كتابة مشروع قرار، ولكن مناخ الضغوط الذي واكبه منذ اليوم الأول، دفعه الى بحثه شفهياً مع القاضي ميرزا ومع آخرين، قبل أن يشنّ فريق الادعاء حملته التي انتهت بقرار من القاضي رالف رياشي بإعفاء القاضي عيد من مهمته، وكل ذلك تم بعدما عرف فريق الادعاء أن عيد كان ينوي فعلاً إطلاق سراح اثنين على الأقل من الضباط الاربعة. وكل ذلك تم ضمن لعبة سياسية تابعها وزير العدل المعظم لحظة بلحظة، بل شارك فيها من خلال تكراره معزوفة «أن الافضل لسلامة الموقوفين أن يبقوا في السجن».
سادساً: يعرف وزير العدل أن ملف التحقيق يبقى من صلاحية القضاء اللبناني حتى يتم تعيين المدعي العام الدولي. وبالتالي فهو ليس في موقع منع القضاء اللبناني من ممارسة دوره على هذا الصعيد وتجميده الى حين تعيين المدعي العام الدولي. وفي موقف رزق هذا مخالفة يفضل أن تؤدّي به الى السجن لا الى القصر الجمهوري كما يحلم ولا أن يبقى حيث هو الآن.
وأخيراً فإن رزق الذي أصيب بمرض العمى السياسي منذ دُعي الى ذلك العشاء الشهير في باريس، وهُمس في أذنه بأنه «الرئيس الإصلاحي المنتظر»، لا يتوقف عن ارتكاب الأخطاء السياسية والمهنية، حتى بات فريق 14 آذار نفسه الذي حاول الانتماء إليه دون جدوى، لا يريده إلا وزيراً متمّماً لنصاب جلسة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ويرفض قادة هذا الفريق التحدث أمامه ويكثرون من التندر عليه: من يخُنْ أعز أصحابه ومن أعاده الى الواجهة السياسية، فلن يكون أميناً على شيء. وبالتالي فهو بالنسبة إلى فريق الأكثرية ليس أكثر من مسترئس مضطر إلى مراعاتهم حتى يحظى بفرصة الترشح، وإن كان قد راهن كثيراً على النافذين في المنظمة الفرنكوفونية العالمية لأجل دعم ترشيحه في الأوساط الدولية النافذة، دون أن يحظى حتى الآن بموعد ولو مع وزير العدل الأميركي أو مع الأمين العام للأمم المتحدة نفسه، برغم كل الطلبات والوساطات الجارية من هنا أو هناك.