strong>رنا حايك
ضيق اليد دفعه إلى مهنة لن يتركها ولو مقابل «مال الدنيا»

فجأة وجد أبو جهاد عاشور نفسه يعمل مسحِّراً. ضيق الحال دفعه إلى البحث عن عمل إضافي، تحوّل مع مرور السنين إلى صفة تلازمه لدى أبناء منطقته. هو «المسحّراتي» عاشور أولاً، ثم صاحب محلّ النظارات... وبائع العصير والجلاب

توفي مسحّراتي المصيطبة عام 1982. فاقترح أحد سكان المنطقة على أخيه أن يشغلا معاً الوظيفة الشاغرة. يومها قبل الحاج أبو جهاد عاشور على مضض، مشترطاً على أخيه أن يقتصر عملهما هذا على شهر واحد. تلاحقت السنوات وتخلّف صاحب الاقتراح عن مواعيد السحور، بينما أكمل أخوه أبو جهاد ممارسة الطقس الرمضاني عاماً بعد عام.
يناديه أهل المنطقة عاشور. ينتظرونه كل فجر خلال شهر رمضان. يعرفهم جميعاً، بيتاً بيتاً ويناديهم بأسماء عائلاتهم ليوقظهم خلال جولته اليومية. التقليد الذي دفعت الحاجة المادية عاشور إلى ممارسته أصبح واجباً لا يغمض له جفن إذا لم يؤدّه. فهو مؤمن بالامتداد الروحاني والديني للطقس الذي يمارسه كل ليلة.
لكن هذا ليس العمل الوحيد الذي يعيش منه، فهو يدير محلاً لصناعة النظارات الطبية في برج أبي حيدر، افتتحه بعد سنوات طويلة من العمل لدى محلات «نقاش للنظارات» في وسط بيروت الذي أقفل بعد انتهاء الحرب ومباشرة إعادة إعمار الوسط التجاري.
يداوم في محله ذي المدخول المتواضع خلال النهار، ثم ينصرف بعد الظهر لعرض منتَجاته من الليموناضة والجلاب وعرق السوس على عربة بمحاذاة جامع برج أبي حيدر. أما بعد الإفطار، فيحضّر بضاعة اليوم التالي من الجلاب والليموناضة، ثم ينام نحو ساعتين فقط، يستيقظ بعدهما للقيام بجولته في المصيطبة، يصلّي الفجر ثم يعود لنيل قسط من النوم في منزله قبل أن يبدأ روتين عمل يوم آخربسطة» الجلاب وإكرامية العيد التي تصل إلى نحو مليون ونصف مليون ليرة تسدّد تكاليف الشهر الفضيل، فأبو جهاد يعول أسرة من أربعة أبناء، يرفض الشابان فيها تسلم شعلة «المسحراتي» من أبيهما. ورغم أن الحاجة كانت الدافع الأول لقيام عاشور بهذا الطقس اليومي طوال ثلاثين يوماً، إلا أنه يؤكد أنه «لن يتوقف عنه ولو امتلك مال الدنيا»، لكنه إذا اضطر لأن «يتقاعد»، فسيسلمها لزميله «الصفح» الذي يتولى أمر إيقاظ سكان المنطقة المجاورة، ولن يسلّمها لأحد غيره، فهو لن يُدخل «غريباً» إلى المنطقة.
إيقاظ الناس على السحور طقس له سحره الخاص ومتعته، وهو يفرض نمطاً معيناً من العلاقات بين سكان الحي، رغم أن «الزمن لم يعد هو الزمن». فمنطقة المصيطبة تمتدّ وتكبر، وخريطتها السكانية تتغير. منازل القرميد والقصور التي كانت تملأها تختفي الآن واحدة تلو الأخرى. البنايات الجديدة اللامعة والمرتفعة أصبح لها نواطير يمنعون عاشور، بناء على طلب السكان، من الصعود لطرق الأبواب وتلقّي العيدية.
يترحّم عاشور على الزمن الغابر، حين كانت الأُلفة تسود بين سكان المنطقة، وأطباق الطعام تدور بين الجيران وتصل للمسحراتي فيعود إلى بيته كل ليلة محمّلاً بالطيبات. أما الثابت الوحيد بالنسبة إليه في كلّ المراحل، فهو كرم الفقراء الذي يتجاوز قدرتهم المادية، يقابله حرص الميسورين.
إلا أن «الدخلاء» لم يقضوا تماماً على الأُلفة. فسكان المنطقةالقدامى ما زالوا يحافظون عليها. هكذا يعمد صاحب فرن الكعك، جار عاشور، إلى إيقاظه كل فجر بواسطة التليفون، يقول له: «وحّد الله، قوم فيّق الناس». من هذا المنطلق يبرز عاشور كأنه «مختار المنطقة»، يقصده كل من يبحث عن عائلة ما، أو من يريد الاستدلال على أحد.
للأطفال أيضاً ذكرياتهم مع عاشور. أحدهم اغترب لمدة طويلة، نحو 13 عاماً، وحين عاد، قصد عاشور ليسلّم عليه ويذكره بنفسه وبالطفل الذي كان ينتظره على الشرفة كل ليلة. فبعض الأطفال يخافون من «الطبّال»، يصحون على صوت طبلته وإنشاده ويطلّون من الشرفة ليتأكدوا من أنه إنسان مثله مثلهم. فيما يُحكم عاشور أواصر علاقته بالأطفال في العيد، حين يدور على البيوت ليجمع الإكرامية، فيصطحب طبلته معه ويتبعونه هم من منزل إلى آخر فرحين ببهجة العيد التي يجسّد عاشور جزءاً مهماً منها في واقعهم.
يعمل عاشور باستمرار على تطوير نفسه، يقصد الحلقات الدينية ويحفظ المزيد من المدائح التي غالباً ما يطالبه أهل الحي بإلقائها، يتلو على مسامعهم أسماء الصحابة بصوته الجهوري، وهو يتناول أقراص مليّنة للحنجرة كل ست ساعات للحفاظ على قوته ولحمايته من البحة: «يا أهل البيت سلامي إليكم، أهل الخير الأنس لديكم، نظرة لنا من رمش عينيكم، نحنا لخدامكم خدام، طه المختار تجلى نوره، قبل الممات يا ريتني أزوره، وأقف في قربه وأشم عطوره، طه اللي هدانا للإسلام».
الحاج حازم، الذي يقطن شارع العانوتي منذ 45 عاماً، يردّ من داخل منزله على عاشور كلما أيقظه قبيل الفجر. ينفض النوم عن عينيه وهو يصرخ مطالباً إياه بإنشاد أحد مواويله. يخبرنا كم يعشق صوت عاشور، وكم يتأثر بكلمات المديح الذي ينشده. «يطفر الدمع من عيني كلما أسمعني موالاً على السحور»، يقولأما أبو عدلى النجار فيذكر المسحراتي عاشور بالخير، وبطرفة يبتسم كلّما رواها. يذكر يوم مازحه محتجاً على أسلوب إيقاظه العنيف فطلب منه أن يردّد جملة معينة ليوقظه:»بليز أبو عدلى، فيق». وفعلاً، التزم عاشور وأصبح يوقظ أبو عدلى بالأسلوب الرقيق الذي طالبه به.
لا تزعج طبلة عاشور أم مصطفى عبلا، القاطنة في «الزاروب» الذي سُمي على اسم عائلتها حين كانت تمتلك قصراً وإسطبلاً فيه، بل بالعكس، تفتقد طبلته حين تغيب وتتصل بمنزله في اليوم التالي مباشرة لتطمئن إليه.
يحفل تاريخ عاشور الليلي بالذكريات الطريفة. فـ«ابن الكعكي» يراشقه بالبندورة والبطيخ من على الشرفة فيصرخ به: «عرفتك عرفتك هيدا إنت». وأبو خالد الذي يستغرق في نومه لا يصحو إلا بالصراخ: «ولك يا أبو خالد يلا قوم». ولا يغادر المكان تحت شرفته إلا حين يرى نور الصالة قد أشعل.
لا يخاف عاشور من العتمة، ولا من ليل بيروت المتوتر هذه الأيام، لكنه لم يطبّل ليلة اغتيال النائب أنطوان غانم. أيقظ السكان عبر الهاتف من بيته. فقد منعته الأجواء الأمنية المتوترة من القيام بجولة لم تمنعه أعنف العواصف من القيام بها، ذاكراً أنه حين كان يصادف حلول شهر رمضان خلال فصل الشتاء، كان يرتدي «المشمع النايلون» ويجوب الأحياء تحت المطر ليوقظ سكانها.
ليس عاشور آخر المسحراتيين. فزملاؤه كثيرون. يتفقون في ما بينهم على اقتسام الأحياء. وأحياناً يتوارثون المهنة. لكن عددهم بدأ يتضاءل رغم ترحيب السكان باستمراريتهم. فالمنبه قد يوقظ الصائم، لكنه لن ينقل روح رمضان وأنواره كما يفعله طبل المسحراتي، لأن فيه «نكهة رمضان» كما يصفه عاشور.


تاريخ
المسحراتي

إعداد حلا ماضي