strong>محمد محسن
  • صورة نمطية سيئة تلاحقهم وردّهم عليها لا ينفيها

  • بات سائقو الباصات الصغيرة (الفانات) يتّصفون بصورة نمطية تكرّست خلال السنوات الأخيرة. هم في أذهان مواطنيهم معرقلون للسير، مخالفون للقانون، يستخدمون المازوت... كلّ هذا في كفة والمشاكل التي يفتعلونها يومياً مع الركاب أو سائقي السيارات العمومية في كفة ثانية. كيف يردّ السائقون على هذه الاتهامات؟

    يوم وصلت صفقة الباصات الصغيرة العاملة على المازوت إلى لبنان في عام 1998، تهافت الكثيرون على شرائها. بعضهم ترك عمله الأصلي واتجه نحو «الشوفرة»، والبعض الآخر دخل في مغامرات القروض المصرفية من أجل عمل يوفر له لقمة العيش. أكثريتهم من منطقة البقاع المحرومة وكلّهم من الفقراء. حملوا حياتهم وجاءوا بها إلى خطوط سير فاناتهم الجديدة. يبذلون مجهوداً هائلاً من أجل تعبئة الفان بالركاب، حتى لو كلّفهم الأمر سباباً وشتائم تكال لهم من الناس، وصورة سيئة بحقهم تكرّست حتى في أذهان بعض من ركاب فاناتهم. ممارساتهم تثير التذمّر، فقانون السير لا وجود له في عملهم، ولا بأس بالدخول في «مشكل» حتى وإن كلّف الأمر إيقاف السير من مسافات بعيدة.

    هل أنا أزعر؟

    على خط الضاحية الجنوبية يعمل علي ابن التسعة عشر عاماً. تجتاحه نوبة من الغضب حين نسأله عن نظرة الناس إليه. يرفض صفة «زعران وبلا أخلاق» التي تطلق عليه وزملاءه في مهنة قيادة الباصات الصغيرة (فانات). هو يعمل في هذه المهنة منذ سنتين، يخفض صوت مسجلته الصادحة بمواويل نعيم الشيخ البدوية، ويجيب «ليش أنا أزعر؟ لا بحشش ولا بتزعرن عالعالم. إذا كانوا يقصدون المشاكل فأنا أعترف أني أحياناً أرتكب مشاكل، ممنوع حدا... عليي». لا يعمل علي على خط آخر غير الضاحية الجنوبية «لا يستطيع الخروج إلى بيروت لأن الفان غير مسجّل ويعمل على المازوت. في بعض الأوقات أضطر إلى التوقف حتى في الضاحية عندما تقيم قوى الأمن حواجزهالم يتجاوز علي في مسيرته التعليمية الصف الثالث المتوسط «شو بدنا نعمل، الظروف كانت صعبة، وبعدا لهلّق». يتساءل «ليش عيشة اللي عايشينا هلّق؟». يسكن في منطقة حي السلّم، وتحديداً في «مدينة العباس» حيث تنتشر أحزمة البؤس، يساعد والده في مصروف المنزل «عندي إيجار بيت ومصروف أكل وشرب ودخان». مصروف لا تكفي لسدّه غلّة فان مستأجر بعشرين ألف ليرة في اليوم و«إنتاجه يتفاوت بين يوم وآخر ويصل في أفضل حالاته في مثل هذه الأيام إلى خمسة وعشرين ألف ليرة من دون ثمن المازوت».
    نشأت يتقبل النكات والطرائف التي تروى عنهم. السائق الذي لم يحصل بعد على رخصة سوق قانونية لا يبدي انزعاجه من نظرة الناس، «فهذا دليل على أننا مهمّون»، فيما لا يخفي سائقون آخرون وجود سكاكين وعصي خشبية وقضبان حديد، حتى إن البعض يتّكل على مفتاح الجنط وعصا الـbaseball في المهمات الصعبة: «عندما يتطلب الأمر».
    دعاس يشكل مثالاً عن هؤلاء، وهو يرفض ما يسمعه من الناس عن سائقي الفانات. يتساءل السائق الذي احتلّت الأوشام جزءاً لا بأس به من عضلاته «إذا الناس بقولوا هيك ليش بيطلعوا معنا؟». يبدأ بشرح أفضال الفانات على المجتمع «مين بيوصّل الطلاب إلى المدارس والجامعات؟ من يوفّر على جيوبهم؟ بعدين لو كنّا زعران ليش ما سرقنا بدل ما نشتغل؟».
    في الفان «القانوني» الذي يتيح لصاحبه العمل في كلّ المناطق نلاحظ سكيناً وعصا، ويبرّر السائق الثلاثيني وجودهما «يا خيي ما حدا بيعرف شو بيصير معو. أوقات بيطلعلك واحد ما بيسوى... بدو يفلعص عليي أو ياخذ الركاب منّي». هو لا يفتعل المشاكل، كما يقول، ويتغاضى عن كثير من الشتائم التي توجّه إليه من أصحاب السيارات المارّة في الطرقات إذا ما كاد يسبب حوادث سير، ولكنه لا يسكت أبداً لشتيمة تأتي من زميل له في المهنة أو سائق تاكسي «علشان سمعتي على الخط. ما بيسوى حدا من الشوفيرية يعلّم عليكيتباهى بصور السياسيين التي وضعتها العروس في الفان. لا يبدي اكتراثاً لبعض الاستفزازات التي قد يحدثها مرور هذه الصور في مناطق معينة «ما حدا إلو مع ربّي. حر بدّي حط الصورة اللي بتعجبني. اللي ما معاجبو ما يطلع معي. وإذا حدا بيتمسخر
    بــ... إختو».
    لا يجد دعــــــاس فرقاً كبيراً بين العمل على الخــــــــط رقم 4 وخط الضاحية، «الفان قانوني يعني على بنزين، وما بيجبلنا شي بالنهار. الأولاد عندن مدارس ومصاريف كتير. مش عارف كيف بدي أمّن كل شي». مثله مثل كثيرين خانتهم ظروف المعيشة. لم تشفع له شهادة البكالوريا التي حازها أثناء عيشه في منطقة بعلبك في أن يصل إلى «وظيفة» أقلّ تعباً وأكثر مردوداً. يفتش عن عمل آخر إلى جانب عمله الحالي سائق فان فـ«الوضع ما بقا يتحمّل».
    دفاع علي ودعاس عن نفسيهما لا يلقى صدى عند الآخرين، ومنهم سائقو سيارات الأجرة. يروي أبو حسين سائق تاكسي قصته مع «شوفير فان جحش أجلّك» حاول أن «يكسر عليّ ليسأل فتاة عن المكان الذي تقصده، لم أفسح له المجال فضرب لي سيارتي من الخلف ولم أصلحها إلى اليوم. عندما حاولت أن أطالبه بإصلاحها حمل عليّ سكينة ابن الحرام. يا خيي علقتن صعبة».
    وحده أبو عماد لا ينفي الصورة التي يتناقلها الناس «مظبوط في كتير زعران وأولاد حرام بيشتغلو عالفانات. نصفهم حشاشون وسكرجيّة. وبعضهم لا يريحون فتاة من شرّهم». لا يبدي السائق الذي يعمل على خط بيروت ـــــ الدورة تذمراً من ظروف العمل عليه «الحمد لله، نحنا ما في زعران محل شغلنا. كل الفانات قانونية، والدرك بيلقطو المخالفين إذا كان في». أبو عماد رب أسرة مكوّنة من سبعة أفراد، كان يعمل نجار موبيليا إلا أن الوضع الاقتصادي المتأزم في البلد أجبره على العمل سائق فان. يبدي ارتياحاً لأنّه تعاقد أخيراً مع إحدى المدارس لنقل التلاميذ في الموسم الدراسي المقبل ما سيريحه من هذا العمل «صار عندي معاش ثابت وارتحت من وجع الراس».

    الزعيم

    «وجع الراس» هذا قد يكون سببه طبيعة العمل في هذا القطاع الذي يكشف لنا أسراره أحد السائقين رافضاً ذكر اسمه. يقول إن الكثير من الفانات تعمل برقم واحد. مثلاً، سبعة فانات تعمل على خط معين باللوحة نفسها والرقم عينه. وفي بعض الأماكن ينقص العدد أو يزيد ليصل إلى أكثر من ثلاثين فاناً يتوزعون على خطوط مختلفة، وإن وجد السائق عشرات التبريرات لهذه المخالفات «النمرة كانت بـ9000 دولار هلّق صارت بـ13000، والنقابة لا تهتم بأحد». «الزعيم» هو من يهتم، يقول متحدّثاً عن انتشار هذه الظاهرة بين السائقين. يضيف: «زعماء الخطوط ليسوا من طينة واحدة كما يظن بعض الناس، ففي كثير من الأحيان يكون الزعيم واحداً من السائقين الأوادم الذين يحلّون المشاكل. ينال زعامته من طريق التجارب الطويلة في «فضّ النزاعات» أو لكبر سنّه بين السائقين. صيته يكون حسناً وكلمته مسموعة ولا ترد. وفي بعض الأحيان يكون الزعيم «مشكلجي وبيحب ياكل الخط كلّو».
    ويستغلّ السائق الفرصة ليعبّر عن امتعاضه وزملاءه من إجراءات درّاجي قوى الأمن بحقهم «مش كلّن عاطلين، بس بيتمقطعو بالشوفير»، كاشفاً أن عدداً منهم يتقاضى الرشى لقاء غضّ النظر عن الفانات المخالفة، وتراوح قيمة هذه الرشوة بين عشرين ألفاً وخمسين ألفاً. أما الإشارة الأخطر التي ذكرها هي أن «عدداً من عناصر حواجز قوى الأمن تعتمد المعايير الطائفية في إيقاف المخالفين!».



    الخيار مرتبط بالـ«جيبة»

    الصورة النمطية التي تطبع سائقي الفانات لا تعني مقاطعة المواطنين لوسيلة النقل هذه. واختلاف الآراء لا يطال ضرورة وجودها بقدر ما يتناول سلوك السائقين.
    محمد الطالب في كلية الإعلام والتوثيق في الأونيسكو من سكان الضاحية الجنوبية يعتبر أن «الفان وسيلة نقل ضرورية جداً»، والسبب أن كلفة الانتقال من منزله والعودة إليه لا تزيد على 1500 ليرة، وهو «مبلغ مريح وخصوصاً للطلاب الذين يحتاجون إلى الكثير من المصاريف». لذلك هو «مستعد لتحمل إزعاج السائقين ما دامت الإيجابيات أكثر من السلبيات».
    أما مروة التي سوف تبدأ عامها الدراسي الأول في كلية العلوم فهي ترفض رفضاً قاطعاً أن تستعين بالفانات للوصول إلى جامعتها القريبة نسبياً من منزلها، «بروح وبجي مشي أشرف لي». والسبب زحمة الركّاب في الباص، إضافة إلى أن «الشوفيرية ثلاثة أرباعهم زعران بيضلّوا يتحشّرو ويلطشو البنات». وبين محمد ومروة تقف دلال على الحياد، فتقول: «من يستطع تحمّل تكلفة التاكسي فليستقلّه، وإلا فليستعن بالفان... الأمر مرتبط بالإمكانات».