strong>مفيد مصطفى
شبان وشيوخ يعتاشون من بيع البقايا المنزلية... فيحمون بيئتنا
نقابلهم يومياً، واقفين قرب مستوعبات النفايات، وإلى جانبهم عربات يجرّون عليها «غلّة» اليوم من كرتون وبلاستيك وتنك... لكن لا أحد منّا يقترب منهم ليحدّثهم ويسأل عن أسرار هذه المهنة... «القذرة»، التي توفّر مردوداً مقبولاً لممارسيها، وتسهم، من دون قصد ربما، في تنظيف بيئتنا

ينحني أبو جاسم (50 عاماً) بثيابه الرثّة المرقعة، فوق مستوعب النفايات الذي يحوم فوقه الذباب. لا يفتش بين أكياسه السوداء وفيها عن بقايا طعام ليأكله أو عن ثيابٍ بالية ليلبسها، بل عن علب كرتون فارغة أو تنك مرطبات أو ما خفّ حمله من بقايا البلاستيك، ليبيعها.
أبو جاسم يجسّد نموذج كثير من الذين يعملون في «مهنة» جمع ما تيسّر من النفايات التي يمكن إعادة تصنيعها من أجل بيعها في نهاية نهار شاق من الدوران على مستوعبات النفايات في مختلف المناطق التي يتمكن من الوصول إليها يومياً. يحكي هو زملاؤه الذين التقيناهم عن مهنتهم بلهجة يغلب عليها الاقتناع بما قسمه الله لهم من عمل «نكون فيه مسؤولين عن أنفسنا».
تزعج بعضهم نظرة الناس إليه وصورة «القذارة» التي قد تصل إليهم، فيما يكشف آخرون «أسرار» مهنة تدرّ مبالغ جيّدة نسبياً وفقاً لطبيعة هذه المهنة. هي مثل غيرها من المهن التي يزاولها الناس، قابلة لأحلام تطويرية في أذهانهم. فلا يخفي أحدهم رغبته في «التوسّع» في هذا العمل، من خلال امتلاك «بورة» بداية... وصولاً إلى انشاء مصنع لتدوير النفايات...
قبل كلّ هذا، عليه وزملائه الاستمرار في جمع نفايات نظنّها نحن أبخس ما في الوجود، في حين تشكّل مورد رزق لكثيرين يبدأ نهارهم كما نهار أبو جاسم:
صباحاً، يغسل أبو جاسم وجهه الداكن السُّمرة الذي كوته الشمس طوال النهار، ولحيته الكثّة التي لم يتمكن من حلقها ببعض الماء. يسرّح شعره المنفوش بيده، يضع قبعة متسخة على رأسه ويجرّ أمامه عربة مصنوعة من قضبان حديدية ومسيّجة بالكارتون والبلاستيك، تتدلى منها أكياس كبيرة، يركنها أمام المستوعب. يمزّق علب الكرتون لتصبح مسطحة. يوضب بعضها فوق البعض الآخر بشكل يجعلها تتسع لأكبر قدر ممكن. ومن ثم يفرغ زجاجات البلاستك من الهواء كي لا تأخذ حجماً ويضعها في إحدى الأكياس المتدلية من العربة، ويضع في كيس آخر علب التنك بعد أن يدوس عليها برجله قدر المستطاع كي يملأ الكيس بأكبر قدر منها. وعندما تمتلئ عربته تماماً بما يزيد على سعتها، يجرّها إلى حيّ فرحات في صبرا، ليفرغها في «البورة»، وهي عبارة عن مساحات ممتلئة بأكوام من الكرتون على أنواعه وأصنافٍ من البلاستيك وكميات من التنك والحديد. ويتخلّلها غرف مصنوعة من الخشب والكرتون والتنك، وهي إما مخازن للبضاعة، وإما غرف مفروشة بالبسط، يتصدرها تلفاز صغير للذين يعملون بالمهنة.
عندما يصل أبو جاسم بعربته يكون في انتظاره «المعلم علي» جالساً على مكتبه العتيق أمام إحدى الغرف الخشبية التي تشكل مكتباً له. يضع عليه آله حاسبة كبيرة، يلبس نظاراته السميكة ويطلب من أبو جاسم الاقتراب من قبّان كبير يأكله الغبار والأوساخ. يفرغ كلّ ما جمعه على القبان ويزنه أمام المعلم الذي يحمل الآلة الحاسبة بيده ليحسب وزن كل من الكرتون والبلاستيك والتنك... كلّ على حدة ويعطيه الغلة، فيقبّلها ويشكر الله عليها ويضعها في جيبه.
إلى جانب البؤرة التي يفرغ فيها أبو جاسم بضاعته يجلس محمد (25 عاماً) الذي شاءت الصدف أن يعمل في هذه المهنة منذ كان عمره 15 عاماً، ويصبح اليوم «ربّ عمل». يتذكر وبريق يومض في عينيه: «عندما بدأت بالعمل كنت أحمل كيساً كبيراً أجمع فيه التنك فقط». يضيف بنبرة صوت مرتفعة ملؤها الثقة بالنفس: «ولكن... كان لديّ طموح بأن لا أبقى شغيلاًيتابع بابتسامة لا تخلو من الإرادة «لذلك اشتريت عربة صغيرة بدولابين»، يتوقف عن الكلام لبرهة، ينظر إلى أحد العمال ويضحك كأنه يرى فيه ماضيه، «ثم اشتريت عربة بثلاثة دواليب»، يتنهد وينطق وهو يشد على الكلمات: «كلفتني 50 دولاراً»، ويردف ضاحكاً بأعلى صوته وكأنه يستهزأ بالمبلغ: «هذا هو رأس المال الذي بدأت فيه حياتي». لكن محمد لم يكتف بهذا القدر لأن الهدف كان الزواج من بنت يحبها في سوريا: «عملت لأشهر من السادسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً، بعد ذلك اشتريت «بيك أب» صغيراً وصرت أجمع فيه البضاعة. ويتابع بنبرة لا تخلو من الاعتزاز بالنفس، وهو ينظر إلى عماله، «وأصبح لدي (ورشة) عدد من العمال وبورة لي وحدي»، كاشفاً أن حلمه الجديد الآن بات أن يصبح لديه معمل.
كثيرة هي الدوافع التي تجعل العمال يتوافدون على هذه المهنة ولعلّ «الحرية» تأتي في طليعتها، حيث لا حسيب ولا رقيب «أنا مرتاح في هذا العمل» يقر وليد، بحركة رأس تشير إلى القناعة، ويضيف بابتسامة لا تخلو من التعب «أذهب إلى العمل ساعة أريد وآتي ساعة أشاء وليس هناك من آمر ولا ناهٍ علي».
وإذا كان وليد يرى فيها العمل الحر فإن عوّاد الذي توفي والده ولم يكن يجيد أي مصلحة يروي بمراراة واضحة في حديثة، «نصحني قريب لي بأن أعمل معه في جمع النفايات لأنها مهنة لا تحتاج إلى تعلم أو خبرة». وبالرغم من كونها «مصلحة» وسخة إذ يستنشق الإنسان رائحة الزبالة ويمد يده على قذارتها، إلا أن أبو جاسم وجد فيها «مصلحة لا تحتاج إلى جهد كبير» يقول واضعاً يده على جبينه فوق عينيه المزنرتين بهالات سوداء كمن يجهد للتخلص من غشاوة تعترض نظره: «أنا رجل كبير في السن، ولم أعد قادراً على العمل في قطاع البناء أو الزراعة».
وعن الأمراض التي يتعرض لها من جراء تنشق رائحة النفايات يقول ضاحكاً، كأنه يستخف بالسؤال: «هذه المهنة تعطي مناعة على عكس ما يظن الناس»، ويضيف بنبرة «جادة»: «عندما لا أنزل إلى العمل أشعر بالضعفمع أن هذا العمل لا يخلو من القذارة إلا أنه ينتج مبلغاً مقبولاً يومياً. وليد يجني ما بين 14 ألفاً و50 ألف ليرة يومياً، «حسب ما الله يرزق» يقول، وكلما كانت غلته مليئة بالتنك زادت يوميته، «لأن كيلو التنك يتراوح سعره ما بين 1000 و2000 ليرة لبنانية»، أما البلاستيك فيأتي بالدرجة الثانية بعد التنك والحديد: «يبلغ سعر كيلو البلاستيك بين 130 و200 ليرة لبنانية حسب نوعيته» يقول. أما الكرتون فهو الأرخص والأكثر وفرة، ولا يتعدى سعره 50 ل ل للكيلو الواحد.
هذا بالنسبة إلى العمال، أما المعلم علي فيبيع البضاعة بالأطنان لمصانع خاصة لاعلاقة للدولة وسوكلين بها. ويؤكد أنه يربح بطن الكرتون ما بين 15 الفاً و20 ألف ليرة لبنانية، يعني، «أبيع الطن بحوالى 45 دولاراً لمصنع في وادي شحرور» وعن البلاستيك يقول بأن الربح لا يختلف كثيراً وأن الطن يصل سعره إلى 160 دولاراً. ويباع لمصنع في الشويفات.
أما التنك فهو «ذهب هذه المصلحة، لأن الطن يربح أكثر بكثير من البلاستيك والكرتون»، من دون أن يحدّد المبلغ «لأن ذلك سرّ المصلحة»، يقول بكلمات لا تخلو من الخبث ويباع إلى مصانع في صيدا والبقاع تعيد صهره. ويشير المعلم إلى أن «هذه الأسعار ليست ثابتة، وهي تتغير حسب السوق مثلها مثل أي سلعة».
حتى هذه المهنة لم تسلم من الشظايا السياسية وما تبعها من حوادث أمنية: «انخفض عملنا إلى النصف منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري»، يقول أبو حسن (صاحب بورة) لكن كيف؟ يشرح: «كلما ارتفع عدد العمال ازداد العمل، والعكس صحيح»، ويضيف: «عدد كبير من العمال بات يخاف من المجيء إلى لبنان بسبب المضايقات التي يتعرّضون لها، وخصوصاً في منطقة الطريق الجديدة». من ناحيتهم العمال يعانون مضايقات من قوى الأمن الذين يصرخون بهم في العديد من الأحيان ليزيلوا عربتهم من الطريق بحجة أنها تعرقل السير، وهنا يقول أبو جاسم ساخراً، «هل أملك كميون؟».




نحو إدارة النفايات المنزلية

هل يمكن العامل الذي يقف فوق مستوعبات النفايات، يشم رائحتها الكريهة، ويمدّ يده إلى قذارتها أن يصبح موظفاً نظيفاً؟ الإجابة عن هذا السؤال هي نعم... «من خلال إدارة النفايات المنزلية التي لا يمكن أن تستقيم من دون استراتيجية وطنية متكاملة» كما يشرح الأمين العام لـ«حزب البيئة اللبناني» حبيب معلوف. ويؤكد أن «دراسة مكوّنات النفايات في لبنان وتصنيفها هي من الثوابت لمعرفة السام والخطر وتلك العضوية والقابلة للتصنيع». ويشير معلوف إلى ضرورة «إيجاد قوانين جديدة للتخفيف من إنتاج النفايات غير القابلة لإعادة التدوير»، ويقول: «يجب فرز النفايات في المنزل لأن ذلك يسهل تصنيفها ويزيد من سعرها لأنها أنظف، بعد ذلك يتم تخمير المواد العضوية التي تصبح مضافات للتربة، وبذلك لا يبقى إلا القليل القليل للمطامر التي تثير خلافات كبيرة اليوم في لبنان».
ويشير معلوف إلى «دراسة أجراها حزب البيئة تبين أن 90 % من النفايات المصنفة خطرة (البطاريات الكومبيوتر...) مستوردة، واقترحت الدراسة إجراء مفاوضات مع الشركات المصدرة لاستردادها». ويلفت إلى أنه «في حال تطبيق هذه الاستراتجية فإن البلديات لن تعود بحاجة إلى تمويل من الدولة وتتخلص من النفايات التي تلوث البيئة والمياه».