جان عزيز
يستحق لقاء بكركي اليوم أن يكون مسجلاً بالصوت والصورة، وموثّقاً للتاريخ، وهو في نواحٍ عدة منه، ليس استثنائياً فحسب، بل تاريخي فعلاً. وهو كذلك في جانبين أساسيين، العلاقة ـــــ المفارقة بين أشخاصه الثلاثة، والسياق السياسي والوطني الذي يظلله.
في الشخصيّ أولاً ثمة استحضار لتاريخين اثنين في الصرح البطريركي، عبر العلاقة الاستثنائية لكل من أصحاب الغبطة والعمادة والبكوية. تاريخ لبنان ومسيحيّيه في العقدين الماضيين على الأقل، وتاريخ العلاقة بين الديني والسياسي، الروحي والزمني، داخل الجماعة المارونية منذ ثلاثة قرون.
فما بين البطريرك والجنرال شخصياً، قد يكون المداد الكافي لكتابة سفر انتقال لبنان من الجمهورية الأولى إلى الثانية، بين عامي 89 و90. يومئذ وجد الرجلان نفسيهما في مواجهة الخطر الخارجي نفسه. الأول اختار الرد بالانحناء، الثاني اختار الصمود في وجه العاصفة المثلّثة: عاصفة انهيار موازين الداخل، واختلال نظام المنطقة بعد انتحار صدام الأول في الكويت، وانهيار سوية الكون بعد سقوط القطب الشرقي. وبين خياري الانحناء أو الصمود، كان ثمة من «يزق صحون» ويركب الدسائس، كما حصل ليلة «الهجوم» على بكركي، لاتهام الجنرال وزيادة الهوّة. وبينهما كان ثمة طائف بشقين، داخلي يتمسك به الصرح ولا يعارضه عون، وخارجي اعتبره البطريرك ثانوياً، وقررت بعبدا رفضه.
تناقضت المواقف، تباعدت المرجعيتان، فصار السقوط حتمياً، بعده ازدادت المسافة، فالجنرال رأى أن أعوام الوصاية السورية لم تكن لتنجح لولا المواقف المسيحية الداخلية التي خذلته. والبطريرك كان من الذين رأوا أن انقلاب الطائف في صيغته العربية ـــــ الدولية إلى ترجمته السورية حصراً، لم يكن متيسراً لو جيء برينيه معوّض قبل فوات الأوان. ومع هذا التباين جاء كلام الطرفين مصدَّقاً، قال عون إن على الراعي ألاّ يخالف إجماع رعيته، ورد البطريرك بأن ثمة كابوساً قد أزيح، وإن حاول لاحقاً التبرير بالقول إنه قصد بالكابوس الاقتتال المسيحي فحسب.
ذهب الأول إلى منفاه القسري، ودخل الثاني صحراءه الطوعية وظلّا على تباعد، وحده نداء مجلس المطارنة في 20 أيلول 2000، ردم بعض الشرخ، طالبت بكركي بجلاء السوريين، فزار عون البطريرك إبان محطة باريسية له، وقال له مصالحاً: كنت قد ربحت الآخرة حتماً، أمّا اليوم فبتّ رابحاً الدنيا والآخرة معاً.
ومع ذلك لم يستمر التطابق. مع قيام قرنة شهوان بمظلة بطريركية، فضّل عون البقاء خارجاً، تعبيراً عن موقف مبدئي، لا تخالطه تكتيكات السياسة تحت الوصاية، فيما سيد الصرح ظل على لغته، صامد في الأساسيات، غامض في التعبيرات. بعد جلاء السوري صعد عون إلى بكركي مؤيداً في المعركة ضد قانون الحريري ـــــ كنعان، رد صفير التحية بمثلها مطوّباً الجنرال زعيماً لطائفته، لتبدأ بعدها سلسلة الانهيارات.
وفي الشخصي أيضاً، ثمة تاريخ آخر يُستحضر بين سيد الصرح وسليمان فرنجية، تختصره واقعة أن زغرتا منذ نحو ثلاثمئة سنة لم تعرف أبرشية مارونية تابعة لبكركي طبيعياً، وهو ما استُعيض عنه حتى اللحظة بنيابة عامة. تاريخ عنوانه أن زغرتا أكثر من مرة في تاريخها نزعت أجراس كنائسها وأرسلتها إلى البطريرك تعبيراً عن تأييدها لزعيمها السياسي، حينما يتباين مع مرجعها الديني. وتاريخ يختزله أن زغرتا نفسها من ثلاثية الجبب التي شهدت ولادة المارونية، كمجتمع سياسي في هذه المنطقة في الشرق المأزوم بنزع مسيحيته، وفضلاً عن هذا التاريخ القديم، ثمة آخر أكثر آنية بين البطريرك والبيك. فالأخير وقف في وجه كل حلفائه، تحقيقاً لعهد قطعه للبطريرك بإقرار قانون القضاء. والبطريرك بدا أقرب إلى الطرف الآخر، بعدما انقلبت الدنيا على كرم البيك اليبس. فرنجية يرى أنه ضحى بكل شيء وفاءً لبكركي، لتصير راعية لأخصامه، وبكركي ترى أن المطلوب الآن يتخطى كل تضحيات الأمس وحساباته والسباقات. وبين هذين التاريخين والأشخاص الثلاثة، يبرز السياسي الآنيّ، عامل تمايز وتباين وبحث في مصيرية اللحظة.
فالبطريرك ثابت على خياره الذي اعتمده بصمت منذ سبعة أعوام، ومفاده أن التوازن المسيحي ـــــ الإسلامي ممكن متى أزيحت دمشق عن كاهل لبنان. وبعد الجلاء السوري، ثمة أولويتان: التركيز على إنهاء ما بقي من ذيول الوصاية، بالاستعانة بالغرب، والإصرار على تذليل قضية سلاح حزب الله، التعبير المزدوج عن بقايا الوجود السوري، وعن العائق دون التوازن الداخلي السليم.
والجنرال والبيك ثابتان على خيارهما السياسي المتقاطع منذ عامين ونيف: السياق الدولي والإقليمي الراهن، بموقفيه الغربي والعربي الغالب، يدفعان إلى جعل لبنان بلداً محكوماً بأرجحية سنية، ما سيدفع إلى تهميش مسيحي متزايد ومطّرد، وما سينزع من المسيحيين أي مشروعية نضالية للرفض والمواجهة، كما كان الأمر ممكناً في وجه الوجود السوري. وبالتالي فإن الوقوف عند نقطة توازن الجماعات اللبنانية، ولو كانت غير متطابقة مع نقطة توازي المسافات في ما بينها، أمر ضروري ومصيري للمسيحيين، حتى إقناع الغرب بخطئه المرتكب في العراق ومصر وفلسطين وفي لبنان نفسه طيلة عقدين، وحتى إقناع الشركاء في الوطن، بأن الخطأ الذي ارتكبه المسيحيون في الأربعينات، يوم حاولوا ترسيخ أرجحيتهم، بذريعة دورهم في إنهاء الانتداب يظل خطأً غير قابل للتكرار مع سواهم، ممن يحترف تضخيم دوره في إنهاء الوصاية السورية، تكريساً لهيمنته.
تاريخيّ لقاء بكركي اليوم، لأنه بين أشخاص يختزلون الكثير من التاريخ، ويعبّرون عنه بشفافية، وكأنها لغة مؤرخين، مع فارق قولها في اللحظة الآنية. وتاريخيّ، لأنه سيقرأ الآنيّ من الأيام، بحسب رؤية هؤلاء، ولأنه سيدفع القراءة بمسؤولية التاريخ المقبل.